لن أكون قاسيًا كقساوة ألبير كامو في رائعته “الغريب” التي استهلها بعبارة: “اليوم أمّي ماتت”، ولا جاحدًا كجحد غلام ابراهيم المنذر الذي أغراه النقود فأتى بفؤاد أمّه... لن أكون كلتا الحالتين وما اعتدت كذلك، بيد أنني لن أسمح لمشاعري هذه المرة أيضًا بأن تقول الكثير وتفضح ما في مكنونات رجلٍ يشبّ. لن أنهل من قاموس “الكليشيهات” يمينًا تهزّ السرير وعينًا ترعى وفؤادًا يحنّ... دعيني أخرج من كلّ هذه النمطيات، أبعديني من كلّ تلك الترّهات التي لا تنطق بها الشفاه سوى في يومٍ يستفزّ العين والقلب معًا.
أأغالي إن قلتُ إنك شيءٌ لا أفهمه لا يُنتزَع مني إلا يوم القيامة؟ أأبالغ في ذلك؟ حسنًا انسي هذه الجملة المعقدة، ربما هي شبيهة بتلك التي قررتُ تجاوزها.
أكذب إن قلتُ إنني لا أتأثر كسواي في هذا اليوم. أكذب إن قلتُ إنني أخرج من منزلي في يومٍ غائمٍ كأي يومٍ عادي. لا أجيد قول الأشياء. اعذريني. كلماتي المكتوبة تخفّف حدّة التفوّهات عليّ، تقتل قليلًا من الإحراج الذي يدفعني الى استعجال الخروج كأي يوم عابرٍ. أفشل. أريد أن أفعل ولكنني أكره الشكليات. أكره مخاطبتك مباشرة. لم أكره هذا الشعور إلا معك. لا أجدني مرتاحًا في النظر الى عينيك إذ تحدقان بي وتمعنان في ذلك كأني بهما تنتظران مني قولًا أو فعلًا ما. أخطو قليلًا: أأتراجع؟ أأكسر من ذاتي وأقول ما في فمي وألوذ بالرحيل مسرعًا؟ أكره نفسي، أكرهها في هذا اليوم، ولكنني أحبُّ روحي. أعشق طفولتي المختبئة خلف ستارة عقلٍ يافعٍ فيه من العجرفة البريئة حتى على من منحته الحياة وملأت دنياه. أكره نفسي عندما تتكبّر على ذاتها، على روحها، على شيءٍ منها. سأقول ولكنني سأتلعثم هنا أيضًا. اعذري فوضى فُكَري، لم تعتد كمًا كبيرًا من الصراحة، لا تحتمل بالأحرى هذا الكمّ من القول. رجاءً لا تجبريني على قول تلك الأمور، دعيني أنتشي بجغرافيا القلب، دعيني أقمعه عامًا جديدًا، دعيني لا أفكّر بأنك تكبرين وبأن عليّ أن أفعل الأشياء نفسها كلّ عام في الخفاء وبسرعةٍ قياسية فلا أشعر بثقل الوجدان عليّ، بواجبٍ قلبيٍّ لا مناص منه. أخرِسي روحي لبعض الوقت، اقمعيها، لكِ الحقّ في ذلك. ذكّي أنانيّتي أيضًا وأيضًا، ألستِ أنتِ من يضحّي أو هكذا يقولون فيك؟ ألستِ
أنت التي تهزّ السرير بيمناها والعالم بيسراها؟ ألستِ أنتِ من يحنّ الشاعر الى خبزها وقهوتها؟ ألستِ أنتِ ستّ الحبايب؟ كونيها كما أريدها أنا لا كما تريدينها أنتِ. كونيها كما يهواها روتيني.
لن أقول لكِ ما تعشق كلّ بذرة فيها من الأمومة أن تسمعه: لن أقول أحبّك أو أدين لك، ولن أستلذّ بعناقك شرط أن يكون سريعًا كي لا يُضعِف عنفواني السخيف. لن أدمع عندما تشيحين بنظرك عني. هأنذا أقولها. لن ترتاحي، لن تشعري كأيِّ أمٍّ عادية يُغدِق عليها وليدُها، لا بل بكرُها بهذا الكلام النمطي الجميل على نمطيّته. تعرفين أنني لا أحبّه ولكنني سأقول شيئًا وحيدًا اليوم، واليوم فقط لأجلك وحدك، ليس لأنك رحمٌ حملني تسعة أشهر، بل لأنك شيءٌ من روح ولد معي وسيرافقني اليوم وسرمدًا.
* الى أمي وجميعهنّ.