على الرغم من أنّ عدد الوحدات الأميركيّة التي شاركت في الإنزال الجوّي الميداني الذي تمّ أخيرًا في منطقة الكرين(1) على بُعد 5 كيلومترات غرب مدينة الطبقة الإستراتيجيّة في محافظة الرقة شمال سوريا، لم يكن كبيرًا، إلا أنّ دلالاته كانت كذلك، وهي ستترك بدون أدنى شكّ أثرًا مُباشرًا على كامل الحرب السوريّة. وفي هذا السياق، يُمكن إختصار أهمّ أهداف عمليّة الإنزال التي شاركت فيها أيضًا وحدات من "قوات سوريا الديمقراطيّة"(2) والتي ترافقت مع عبور وحدات عسكريّة موالية لواشنطن نهر الفرات على متن زوارق مُحمّلة بالعتاد والذخائر باتجاه منطقة الكرين، بالشكل التالي:
أوّلاً: من الناحية العسكريّة الميدانيّة، الهدف الأبرز هو قطع طريق الرقّة-حلب، وطريق الرقّة-الطبقة، ما يعني عمليًا إحكام الخناق على مُسلّحي تنظيم "داعش" الإرهابي في مدينتي الرقّة والطبقة، إضافة إلى الإقتراب أكثر فأكثر من مطار الطبقة العسكري. وهذا الأمر يعني أنّ الطريق الوحيد المُتبقّي للخروج من الرقّة حاليًا هو عبر نهر الفرات الذي يحدّ المدينة من الجنوب، ويُؤشّر بالتالي إلى قرب إنطلاق المعركة الكبرى ضُدّ مُسلّحي "داعش" في الرقة، بالتزامن مع إستمرار تراجع التنظيم المذكور وتقهقره في مدينة المُوصل العراقيّة، الأمر الذي يُمهّد لقرب سقوط "الدولة الإسلاميّة" المزعومة في العراق والشام. إشارة إلى أنّه بمجرّد الإستيلاء على ريف الطبقة الغربي، تنشطر مناطق سيطرة تنظيم "داعش" في ريف حلب الشرقي عن بقيّة مناطق سيطرته في الرقّة ودير الزور.
ثانيًا: من الناحية الإستراتيجيّة، الهدف الأبرز هو السيطرة على منطقة الطبقة بشكل كامل ومُحكم، لمنع وحدات الجيش السوري من التقدّم نحو الرقّة في المُستقبل، وتحديدًا في حال تمكّنت من السيطرة على بلدة مسكنة في ريف حلب الشرقي. وبمعنى آخر، فرض خط أحمر بالنار من غير المسموح للجيش السوري وللقوى الحليفة له تجاوزه، وذلك في إطار معارك تقاسم النفوذ على الأرض السوريّة.
ثالثًا: من الناحية التكتيّة، الهدف الأبرز توجيه رسالة حازمة إلى تركيا أنّ بوسع واشنطن، وبالتعاون مع الوحدات الكردية وبعض المقاتلين السوريّين والعرب، العمل على طرد "داعش" من الرقّة من دون مُساعدة من الجيش التركي في حال أصرّت أنقره على رفض إشراك وحدات كرديّة في المعركة. إشارة إلى أنّها المرّة الأولى التي تتواجد فيها وحدات عسكريّة أميركيّة وأخرى من "قوات سوريا الديمقراطية" في الضفّة الجنوبيّة لنهر الفرات.
رابعًا: من الناحية السياسيّة، الهدف الأبرز توجيه رسالة قويّة من واشنطن إلى موسكو بأنّ أيّ مُفاوضات خاصة بالوضع النهائي يجب ألاّ تتجاهل الدور الأميركي في سوريا والشرق الأوسط عمومًا، وأنّ الرهان على التفرّد بالقرارات مع كل من تركيا وإيران دون الولايات المتحدة الأميركيّة، لن يُودّي إلى إنهاء الحرب في سوريا.
ويُمكن القول إنّه في الوقت الذي تتواصل فيه المُفاوضات السياسيّة الخاصة بإنهاء النزاع في سوريا، تارة في آستانة وطورًا في جنيف، لا تزال المعارك قائمة على الأرض في أكثر من مكان وموقع، من قبل العديد من الجهات ولأسباب ومصالح مُختلفة تمامًا. فإذا كانت المعارك الدائرة شرقي دمشق وفي ريف حماة تهدف إلى إيصال رسالة من بعض الفصائل المُعارضة المُقاتلة، ومن القوى التي تدعمها، بأنّ الحرب السوريّة لم تنته بعد، وبأنّ الكثير من الجهات لن تسمح بفرض شروط إستسلام على طاولة المُفاوضات، فإنّ المعارك قرب الرقّة تهدف بدورها إلى تأكيد جدّية الإدارة الأميركيّة في محاربة "داعش"، وإلى بعث واشنطن برسائل متعدّدة الإتجاهات بأنّها قادرة على المُشاركة في القتال ميدانيًا، وعلى تحريك قوى حليفة لها في إطار خطط عسكريّة مُحكمة(3)، ما لم يتم أخذ مصالحها في الإعتبار والتعامل معها كفريق أساسي مطلوب إشراكه بمفاوضات إنهاء الحرب، وبالتالي في مغانم السلام!
(1) شمل الإنزال أربعة مواقع أساسيّة هي: أبو هريرة والمشيرفة والكرين والمحميّة الطبيعيّة قرب قرية الكرين.
(2) تضم "وحدات حماية الشعب" الكرديّة إلى جانب مُقاتلين سوريّين درّبتهم واشنطن ومُقاتلين عرب مُصنّفين مُعتدلين.
(3) شنّ الطيران الحربي الأميركي غارات كثيفة على الريف الشرقي لمحافظة الرقّة، بالتزامن مع تعرّض المنطقة لقصف مدفعي ولضغط ميداني من "قوات سوريا الديمقراطيّة"، لأكثر من ثلاثة أسابيع، وذلك لإيهام "داعش" بأنّ وجهة الهجوم ستكون من هناك، خاصة وأنّه جرى ترك جبهة الريف الغربي في الطبقة ومحيطها هادئة، عشيّة إنطلاق الهجوم والإنزال المُباغتين.