لا يعير النائب وليد جنبلاط «الإتيكيت السياسي» أي اهتمام: يضع صورة صديقه جيفري فيلتمان في صالون منزله بدل وضعها في غرفة النوم كما يفعل السياسيون الآخرون. يسجل العقارات باسمه بدل تسجيلها بأسماء وهمية. يسجل الشركات باسمه في بيروت بدل تسجيلها في الجزر البريطانية البعيدة. يقول: صندوق المهجرين لي، وهذا المقاول لي وهذه الدوائر الانتخابية لي، وهذا الإسمنت لي... ويفترض أن تكون لي حصة في كل صفقة وإلا. ولا يتردد في تنظيم احتفال ضخم ليشهد بنفسه على مبايعة المناصرين لابنه من بعده بدل أن يهرّب التوريثة في العتمة
رغم التحضيرات الكبيرة والتعبئة والآمال المعقودة، مرّ الحدث الجنبلاطيّ الأخير من دون أن يترك أي أثر في الحياة السياسية: لا صاحب الذكرى حصد ما يستحقه بعد أربعين عاماً على اغتياله، ولا صاحب الخطاب قال ما يستحق التوقف عنده، ولا صاحب الكوفية الجديد أنعم على اللبنانيين ببضع كلمات ترفع النقاب عن وجهه.
أتعب النائب وليد جنبلاط نفسه و«رفاقه»، فيما كان يمكن تغريدة على «تويتر» أن تحقق النتيجة نفسها أو أكثر. الرسوم الكاريكاتورية التي ينشرها جنبلاط عادة أذكى مما جلس هناك ليرسمه. ولا شك في أن حيرة تيمور وارتباكه الكبيرين لا يقارنان بحيرة وارتباك ضيوف جنبلاط السياسيين الذين يصعب تقدير ما أرادوا قوله من مشاركتهم في حفل تنصيب ابن الزعيم زعيماً. علماً بأن تمسك جنبلاط بتحالفه مع البطريرك نصر الله صفير الذي تقاعد منذ ست سنوات ويغيب عن السمع بالكامل منذ أربع سنوات، يؤكد أن الرجل يعيش في عالم آخر، وهو لا يزال يعتقد أن مصالحة الجبل الشكلية التي لم تمسّ بأحاديته التمثيلية على جميع المستويات في الشوف وعاليه لم تنته صلاحيتها، بعد مرور أكثر من 15 عاماً عليها. ولا شك في أنَّ الازدحام والتدافع حالا دون التفات جنبلاط إلى مرشحه الرئاسي السابق النائب هنري حلو، لإشراكه في مسرحية رفع الأيدي، عله يقنع نفسه أكثر فأكثر بأن العماد ميشال عون لم يُنتخب رئيساً بعد، وأن عقارب الساعة لا تزال حيث كانت حين علق صورة كبيرة للرئيس ميشال سليمان في صدر صالون المختارة. ولا بد من القول هنا إنَّ الازدحام والتدافع الناتجين من سوء التنظيم أكدا أن بقايا الحزب التقدمي أعجز من أن تنظم احتفالاً سياسياً، رغم وجود نحو أربع شركات خاصة تنظم مثله وأكثر بفريق عمل لا يتجاوز الأربعين موظفاً.
«البيك» الذي كان يستمتع بأخذ الرأي العام يساراً ويميناً، سُرَّ أخيراً باكتشاف قدرته على أن يأخذ جمهوره إلى اللامكان، حيث يقف الآن. يلعب تيمور لعبة والده؛ أراد الأب من الجمهور الاعتقاد بأنه يفضل قيادة الدراجة النارية على قيادة الجماهير، فيما يُظهر تيمور لا مبالاة تقول للدروز يومياً إنه مجبر على قيادتهم، وإنه يفعل ذلك مرغماً.
الأهم من كل الشكليات هو ما أصبحت عليه التقدمية الاشتراكية بعد أربعين عاماً على اغتيال كمال جنبلاط: المختارة التي ضربت عام 1977 بيد مُدَّت إليها اليد الأخرى، ووجدت دائماً سنداً إقليمياً أو دولياً تتكئ عليه، فيما باتت اليوم من دون حليف، سواء دوليّ أو إقليميّ أو حتى محليّ. في المختارة، نهاية الأسبوع الماضي، لم يكن هناك أحد، تقريباً، من أصدقاء كمال جنبلاط وشركائه في تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي، رغم أن غالبية هؤلاء ما زالوا أحياء. إذ إنَّ شروط سيطرة وليد جنبلاط قضت بالبدء بتهميشهم قبل أن يوارى «المعلم» الثرى... انتهاءً بإبعادهم جميعاً.
الوضع صعب ومحرج. حال الحزب التقدمي مع الوراثة السياسية من حال حزب المستقبل والكتائب والتيار الوطني الحر وغالبية القوى ــــ البيوتات السياسية الأخرى. لكن حتى هناك، يتعاون أكثر من صهر وشقيق وابن عمة لملء الفراغ، فيما يقف تيمور وحيداً أعزل. ولعل الحزب التقدمي استغرق أربعين عاماً ليقول، في الشكل والمضمون، إنه لم يعد ذلك الحزب العلماني العابر للطوائف، فيما لم تحتج القوى السياسية اليافعة الأخرى كل هذه السنوات لتتقوقع داخل مذهب واحد. إلا أن الوقائع على الأرض تقول إن جنبلاط لا يورّث تيمور زعامة الدروز، بل يورثه زعامة الدروز اللبنانيين حصراً. وحتى في هذه، ثمة وقائع ميدانية تؤكد أن ضبط تيمور للبيت الدرزي لن يكون أبداً بالسهولة التي وجدها جنبلاط نتيجة التعاطف والمال والسلاح والخدمات. هذه جميعها ولّت إلى غير رجعة. ولعل تيمور كان قادراً، ربما، على شقّ طريقه الخاص لو لم يكبّله والده بإدارة عشرات الشركات الخاصة والعقارات، ويفرغ صندوق التقدمية الاشتراكية الذي يجلسه فوقه من كل ما فيه في الصناديق والحرب والصفقات. في النتيجة، يمكن القول إنَّ وليد جنبلاط نظّم مهرجاناً عظيماً ليقول إنه ليس لديه شيء يقوله. وكان يفترض بالبيك وضيوفه أن يتركوا الكوفيات في منازلهم ويرتدوا الزي الخاص برقصة العرضة التي يلوّح فيها الراقصون بسيوف تذكارية على وقع الأبيات الشعرية التي يكررها أحد المنشدين الذي بدا واضحاً في خطاب جنبلاط تأثره الكبير به.