تتأمَّل الكنيسة، في هذا الأحد المبارك، بمقطع من الأنجيل يروي لنا حكاية المخلَّع (مرقس 2، 1-12) الذي حمله رفاقه ووضعوه أمام السيد المسيح، فشفاه وأمره أن يحمل سريره ويمشي. امام هذه المعجزة نتأمَّل بما يلي:
1- إيمان الشخص وإيمان الجماعة
أظهر لنا خَبَر المخلَّع، بحسب وروده في الإنجيل، أنْ ليس للمخلَّع دور واضح لا في الكلام ولا في المبادرة ولا في السعي ولا في الحركة. فهو كائن بشري معطّل القدرة والإرادة، إذا جاز التعبير، ولا نعرف شيئًا عن إيمانه الشخصي بالله أو بشخص المسيح الذي ملأ الدنيا بمعجزاته. غير أنَّنا يمكن أن نبني إيمانه وإرادته، في هذا الموضوع بالذات، على إيمان عائلته، فالأجداد والآباء والإخوة والأخوات يؤمنون بما تعلّمهم إيَّاه الكتب المقدَّسة ويتصرَّفون حسب مقتضيات الشريعة وشروحاتها الرسميَّة، لذلك نقدّر أنَّ هذا المخلَّع يحمل في قرارة نفسه بعضًا ممَّا تؤمن به عائلته، وإذا صحّ أنَّ هذا الإيمان الفرضي غير موجود، فيمكن أن نجعل من إيمان الجماعة التي حملته، الدافع الأوَّل والأخير الذي كان وراء شفاء المخلَّع.
عوَّدنا المسيح أن ينهي معجزاته بالقول: «إذهب بسلام إيمانك خلَّصك»، أمَّا هنا مع المخلَّع فيمكن أن نستنتج أنَّ إيمان الجماعة قد خلَّص المخلَّع. هكذا نحن في الكنيسة، منَّا مَن يؤمن ويمارس ومنَّا مَن يؤمن ولا يمارس ومنَّا مَن يصلِّي ومنَّا مَن لا يصلِّي ومنَّا مَن لا يؤمن، لذلك أقول إنَّ الجماعة أي الكنيسة، لا يمكن أن تخلو من المؤمنين الصالحين كالقدِّيسين، كما أنَّها لا يمكن أن تخلو من القدسيَّة الإلهيَّة، لأنَّ المسيح ابن الله رأسها ومؤسِّسها والروح القدس محييها، بالتالي تكون الكنيسة في المطلق سببًا لشفاء من ابتعد عن الحياة الروحيَّة وعودته إلى بيت الآب، تمامًا كما كان إيمان الجماعة سببًا لشفاء جَسَد المخلَّع. وذلك يكون بالصلاة والمجاهدة ليعوّض المؤمنون الممارسون عن الذين تخلّوا عن الإيمان وابتعدوا عن ممارسة المسيحيَّة.
2- الاستسلام للقدَر وإرادة التغيير
يعلّمنا خَبَر المخلَّع أنَّ نصيب الإنسان من هذه الدنيا ليس حتميًّا، فليس ثمَّة أمر مكتوب ولا قَدَر لا يستطيع الإنسان أن يفلت منه، من دون أن يكون هذا الأمر رفضًا لإرادة الله. علَّمنا المسيح أنَّ الله يعاملنا كأبنائه، بالتالي لا يريد عذابنا أو قهرنا أو ظلمنا، كما لا يريد أن نفقد كرامتنا الإنسانيَّة التي أتتنا من كوننا صورة الله، لذلك يمكننا أن نعمل جاهدين بإرادة ثابتة وعزم دائم على الخروج من واقع أليم أو مصاب مؤذٍ يقلب حياتنا إلى مأساة، ويكون هذا العمل مبنيًا على الإيمان بالله ومحبَّته اللامتناهية لنا، وعلى إيماننا بالعناية الإلهيَّة التي تريد خير الناس وفرحهم على هذه الأرض وخلاصهم الأبدي في العالم الآخر. أمَّا إذا حصل ما لا نريده ولم ننل ما نطلبه من الله بالصلاة وفعل ما يريده وما علَّمنا إيَّاه الإنجيل، فلا يجوز أن نيأس من رحمته، وفي أقصى الحالات يجب أن نعرف أن الله، إذا لم يعطنا ما نطلبه فلكي يعلّمنا أن نطلب ما يريده هو، وهذا يدخل في صلب عبارة «لتكن مشيئتك» التي نصلِّيها في الصلاة الربِّيَّة حين ننادي أبانا الذي في السموات.
3- ليس عند الله أمر مستحيل
منذ انطلاقة تاريخ البشريَّة، الذي هو تاريخ الخلاص، والله يتعاطى مع الانسان آخذًا في الاعتبار مقدرة هذا الأخير على استيعاب الأمور عقلاً وإيمانًا، غير أنَّ المشكلة كانت تتعقَّد حين كان الانسان يضع حُجُبًا كثيفة بين الله وبينه، ومن أقسى تلك الحُجُب محاولة الانسان أن يفهم كلَّ الأمور بعقله فحسب، كأنَّه يرفض أن تكون في العالم أمور تتخطَّى المعرفة العقليَّة، أو أنَّه يرفض أن تكون هناك سُبُل معرفة خارج إطار العقل، ناكرًا أحيانًا أن يكون الله نفسه هو الذي خلق العقل، بما له من قدرات، من هنا رفضه لكلّ أمر مستحيل واعتباره ضربًا من العبث أو من غير الممكن.
حين أراد الله إظهار الإيمان، كطريقة من طرق المعرفة، قَبِل به البعض ورفضه البعض الآخر. أمَّا الذين قبلوه فمنهم من تشبَّثوا بالحرف والظاهر فزادوا الأمور تعقيدًا، إذ أنكروا كلَّ ما لم يُكْتَب في الكتب أو عجزوا عن إدراكه، لأنَّ أمورًا كثيرة أعمت عيونهم وأظلمت قلوبهم وصمّت آذانهم. من هذه الأمور تنصيب أنفسهم حماة الله عوضًا عن أن يفهموا أنَّ الله ذاته هو مصدر كلِّ حماية ومنبع كلِّ معرفة، لذلك رفضوا أن يكون المسيح إبن مريم هو ابن الله، علمًا أن جبرائيل الملاك أوضح لمريم أن ليس عند الله من أمر مستحيل، فآمنت مريم ولم تضع بينها وبين الله الحُجُب التي وضعها الفرِّيسيُّون.
4- أنتم تستطيعون أن تعملوا مثلها وأعظم
أدرك المسيح أنَّ العقل البشري لن يرضى بسهولة بما يفوق طاقته، لذلك أكَّد أكثر من مرّة لليهود، الذين رفضوا بعضًا من أعمال المسيح، أنهم قادرون على فعل ما يفعله هو وعلى فعل ما هو أعظم. شفى المسيح المرضى كالعميان والبرص والكسح وأقام لعازر من القبر وكثَّر الخبزوالسمك وما سوى ذلك من معجزات، وقد أثبتت الأيام، قبل المسيح وبعده، أنَّ الناس قادرون على فعل مثل هذه المعجزات التي لا يعرف العقل لها تفسيرًا. أولم يكثِّر إيليَّا النبي القمح والزيت عند أرملة صرفت صيدا؟ أولم يقم ابنها من الموت؟ أو لم يشفِ الرسل مئات المرضى؟ أولم يطردوا الشياطين؟
بلى لقد فعلوا كل هذه وهم ليسوا المسيح المولود من مريم ومن الروح القدس، غير أنَّ ملكوت الله الذي أعطانا الولادة الجديدة بالماء والروح القدس، جعلنا نولد للحياة الأبديَّة بعدما وهبنا سرّ الفداء نعمة البنوّة للآب السماوي، فلو آمنَّا بكلِّ هذه لاستطعنا، تمامًا كما المسيح، أن نفعل أفعاله فنشفي المرضى ونقيم الموتى ونطرد الشياطين، أليس هذا ما فعله القدِّيسون: شربل وأنطونيوس ومارون وريتَّا ورفقا وسواهم؟.
كلُّ ذلك عائد إلى أنَّ هؤلاء حافظوا على مفاعيل العماد ودخلوا، بالتقوى وممارسة أسرار الكنيسة، سرّ الفداء وعرفوا مؤمنين أنَّهم جسد المسيح السرِّي. أفلا يستطيع الجسد أن يفعل ما فعله الرأس؟.