انتصر تحالف جبران باسيل وسمير جعجع على النسبية. محا الاثنان كل ما دبّجاه في مديحها طوال السنوات الماضية. وبعدما وضع الرئيس سعد الحريري البلاد على عتبة اعتماد النظام النسبي في الانتخابات النيابية المقبلة، فاجأ باسيل حلفاءه وخصومه، عندما أبلغهم موقفه. رفضه يشمل النسبية في لبنان دائرة واحدة، كما في الدوائر الواردة في مشروع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي (الذي وافق عليه باسيل شخصياً). فهو يشترط للموافقة على «مشروع ميقاتي»، إضافة قيود على الصوت التفضيلي، تخفف من نتائج النسبية، وتجعلها في الكثير من الدوائر أقرب إلى النظام الاكثري المعمول به حالياً.
لم يضيّع باسيل وقته ووقت محاوريه. فمباشرة، عاد إلى التسويق لمشروعه القائم على تقسيم النواب إلى جزأين: جزء يُنتَخَب وفق الأكثري، وجزء وفق النظام النسبي. في الشكل، لا بأس بالاقتراح. لكن لا يحتاج أي مراقب إلى الكثير من إمعان النظر ليكتشف الألغام القاتلة في المشروع. أكثريته طائفية، إذ يُمنع على المسلم الاقتراع لمرشح مسيحي، ويُمنع على المسيحي الاقتراع لأي مرشح مسلم. كذلك فإن الدوائر التي يُنتخب فيها 69 نائباً وفق النظام الأكثري الطائفي، هي أكبر من دوائر قانون الستين. فعلى سبيل المثال، جعل اقتراح باسيل أقضية بشري والمنية والبترون وزغرتا والكورة دائرة واحدة، يُنتخب فيها 6 أو 7 نواب وفق الأكثري الطائفي. باسيل الذي بنى جزءاً لا بأس به من خطابه السياسي، طوال السنوات الثماني الماضية، على الشكوى من سوء قانون «الستين»، واعتبار «الأكثري» نظاماً إقصائياً يحرم 49 في المئة من الناخبين من التمثل في المجلس النيابي، قرّر أن يوسّع الدوائر. علماً بأن النظام الأكثري يزداد ظلماً وإجحافاً كلما جرى توسيع الدوائر وارتفع عدد الناخبين. ما الحكمة من ذلك؟ لا تفسير لخطوة كهذه، سوى أن تكون الشكوى من «الستين» و«الأكثري» متصلة حصراً بالرغبة في منع المسلمين من التأثير في وصول النواب المسيحيين، والعكس، ولا علاقة لها بتحسين تمثيل المواطنين، ولا بعدم إقصاء الأقليات داخل الطوائف. الهم الوحيد هو فتح الباب أمام مشاريع الفيدرالية.
حتى اللحظة، لم يقدّم باسيل «أسباباً موجبة» لمشروعه. ثمة عنوان فضفاض يُشار إليه بالحديث عن «تحسين تمثيل المسيحيين». و«تحسين تمثيل المسيحيين» ــ من ضمن «تحسين تمثيل المواطنين» ــ ممكن من دون اللجوء إلى أي خيارات عنصرية وفيدرالية. فعلى سبيل المثال، النسبية في دوائر متوسطة، كالتي أقرها وزراء التيار الوطني الحر في حكومة ميقاتي، والتي دافعت عنها القوات اللبنانية في اجتماعات بكركي عامي 2012 و2013، تُحسّن تمثيل أبناء الطوائف، والعلمانيين، وتمنع «الطغيان العددي»، وتطيح هاجس أن «يتحكّم أبناء عكار أو النبطية باختيار مرشح في كسروان»، وهو الهاجس الذي يتحدّث عنه مسؤولون في التيار الوطني الحر. يتضرر من النسبية في دوائر متوسطة، اثنان: الكتل السياسية أو الطائفية الكبرى التي ستُحرَم التأثير في مقاعد بعيدة عن دائرة تأثيرها مناطقياً وطائفياً. والمتضرر الثاني، هو الأحزاب والقوى العابرة للطوائف والمناطق، والتي لا تحظى بتكتل كبير من المؤيدين في دائرة واحدة، بل يتوزع ناخبوها على مختلف الأراضي اللبنانية. أما المسيحيون، كما المسلمون، فتمنحهم النسبية في الدوائر المتوسطة كامل حقوقهم، وتحفظ التنوع داخل مذاهبهم، وتفتح باب دخول المجلس النيابي أمام غير الطائفيين منهم.
لكن، أليس من الظلم وصف مشروع باسيل بالعنصري والفيدرالي؟ على العكس، هذه الأوصاف هي من أقل ما يُقال فيه. فهو يفتح الباب على ما هو أخطر من الفيدرالية. في النظم الفيدرالية (والكونفيدرالية)، لا وجود لنصوص قانونية تمنع الناس من الاقتراع لمرشحين لأسباب طائفية. في الولايات المتحدة، يمكنك الانتقال من ولاية ألاسكا إلى ولاية كاليفورنيا. وبعد تسعة أشهر، ودفع الضرائب، ستصبح مواطناً في ولاية كاليفورنيا، لك كامل حقوق أبنائها وعليك ما عليهم من واجبات. أما في مشروع باسيل، فسيُسجَن اللبنانيون خلف قضبان لا أحد يضمن تحطيمها مستقبلاً. وهذا النظام غير معمول به في أي مكان في العالم. في جمهورية صرب البوسنة، حيث وقعت مذابح طائفية وتطهير عرقي قبل نحو عقدين من الزمن لا أكثر، ثمة نحو 130 ألف ناخب مسلم، لا يُطالب أحد بمنعهم من التصويت للناخبين المسيحيين من الصرب أو الكروات. على العكس من ذلك، يؤدي المسلمون الكروات هناك دوراً، ولو ضئيلاً، في الحفاظ على الاعتدال الصربي. حتى في فلسطين المحتلة، لم يحظر الصهاينة ــ وهم مَن هم في العنصرية ــ على المسلمين والمسيحيين واليهود انتخاب أبناء الطوائف الاخرى.
أما في لبنان، فبقوة الأمر الواقع والرهاب الذي يغذيه خطاب وأداء كاللذين يتضمّنهما مشروع باسيل، فإن لكل طائفة غيتو تمنع الآخرين من التملك فيه، وكل طائفة تمنع أبناء الطوائف الأخرى من التزوج ببناتها، ولكل طائفة سياستها الدفاعية، وسياستها الخارجية، ودورتها الاقتصادية شبه المقفلة، ووظائف رسمية خاصة بها. كل ذلك بلا نصوص قانونية. فهل يمكن تخيّل الوضع بعد منح كل طائفة «الحق الحصري» بانتخاب نصف ممثليها؟ وما الذي سيمنع هذا الخيار من التمدد، ليصبح كامل النواب يُنتخبون حصراً من أبناء طوائفهم؟ وما الذي سيحول حينئذٍ دون إقرار اقتراح القانون الذي تقدّم به النائب بطرس حرب قبل سنوات، وطالب فيه بمنع بيع العقارات بين المسلمين والمسيحيين، والمطالبة لاحقاً بإنشاء أقاليم؟ ولماذا الاستهتار إلى هذه الدرجة بالدستور الذي أنتجه اتفاق الطائف، والذي وضع مساراً واضحاً لإلغاء الطائفية السياسية؟
في منطقتنا، الكارثة التي وقعت بعد الاحتلال الأميركي للعراق، تحمل طابعاً سنياً ــ شيعياً. فلماذا يُصر باسيل على منح الأزمة في لبنان طابعاً إسلامياً مسيحياً؟ ولماذا يُراد للمسيحيين التقوقع بدل لعب أي دور في الحفاظ على الاعتدال الإسلامي؟ وأين المنطق في قلب المفاهيم من خلال القول إن التصويت الطائفي العنصري هو السبيل إلى العلمنة؟ كيف ذلك؟ ولماذا القول (مرتين في غضون أسبوع، على لسان وزير الخارجية، وفي صيغة هي أقرب إلى التهديد منها إلى التحذير) إن الفشل في التوصل إلى قانون انتخابي جديد يعني أن التعايش صعب؟ هل من السهل إلى هذا الحد الحديث عن فض الشراكة في البلاد؟
ليل أمس، قال باسيل على شاشة «أم تي في» إنَّ حزب الله أبلغه موافقته على مشروعه، وإنه طلب تعديلين وقدّم ملاحظة واحدة. والحزب، أكثر من غيره، مطالَب بإعلان موقفه من هذا المشروع. فمنذ عام 1982، تضع المقاومة مواجهة التقسيم والفيدرالية على جدول أولوياتها. بدوره، يعلن الرئيس نبيه بري كل حين استعداده لحمل السلاح في وجه مشاريع التقسيم. ليس المطلوب منهما أن يتخليا عن التحالف مع باسيل، ومن خلفه التيار الوطني الحر. على العكس، المأمول منهما تعزيز هذا التحالف، بما يخدم هدف خفض التوتر الطائفي والمذهبي. لكن ما لا يمكنهما تجاهله، أنَّ في اقتراح القانون الانتخابي الذي عرضه عليهما وزير الخارجية، بذوراً لتقسيم البلاد، وخاصة في ذروة الترويج للمشاريع الفيدرالية التي تحملها أميركا وأدواتها في العراق وسوريا. ولهذه الأسباب، وغيرها، يجب عليهما رفض الاقتراح، بلا أي نقاش، انسجاماً مع مبادئهما. والموقف نفسه واجب على الرئيس سعد الحريري، حفاظاً على ما بقي من اتفاق الطائف. أما الرئيس ميشال عون، فيُنتظر منه كلام تاريخي في هذا الشأن، أسوة بالخطاب الجامع، والاستثنائي، في القمة العربية أمس.
على الهامش، ثمة سؤال يوجَّه إلى حزب الله دون غيره: هل يقبل بمشروع انتخابي مماثل لاقتراح باسيل، في سوريا؟