لم تنتظر عكار قانون الانتخاب. كأن المحافظة التي كانت تدير ظهرها للسياسة استيقظت فجأة من سباتها العميق. فطوال السنوات الماضية لم يكن يؤتى على ذكر عكار، لكن فجأة هبطت المتغيرات
تيار المستقبل لم يعد هو نفسه تيار المستقبل: ترهّل تنظيمي وتذمّر شعبي لأسباب مالية وسياسية. النائب خالد ضاهر خلع عباءة المستقبل ليزداد توازناً بدل أن يزداد تطرفاً، وهو ــ بخلاف المستقبل ــ يملك المال والخطاب والماكينة. اللواء أشرف ريفي قرر التمدّد شمالاً أيضاً. ورغم الاتهامات الكثيرة لوزير العدل السابق بافتعال أزمة نهر البارد التي كبّدت الجيش خسائر كبيرة، يقول القائد السابق لفوج المجوقل العميد المتقاعد جورج نادر، علناً، إنه سيرأس اللائحة المدعومة من ريفي في عكار.
لا تنتهي الأمور هنا. فآل البعريني يرون أن الظروف لم تكن يوماً، منذ عام 2005، مؤاتية كما هي اليوم. و«يسنّ» النائب السابق كريم الراسي أسنانه، مستفيداً من وضع النائب سليمان فرنجية في تصرفه أكثر من حقيبة خدماتية. فإلى جانب وزارة الأشغال العامة والنقل، بات على وزراء حزب الله وحركة أمل والمستقبل، أحياناً كثيرة، التفكير مرتين قبل التحرك في عكار من دون الراسي. أما مرشح التيار الوطني الحر عن المقعد الماروني جيمي جبور، فحاله من حال الوزير سيزار أبو خليل في عاليه والوزير جبران باسيل في البترون: ماكينة خدماتية لا تهدأ، علماً بأن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون كان يعرف جيداً ماذا يفعل حين اختار عكاريّاً لتولّي وزارة الدفاع.
بدورها، تقول مصادر القوات اللبنانية إن تجربة الكتائب والعونيين تدفعها إلى اعتبار عكار ــ لا كسروان ولا زحلة ولا الأشرفية ــ أولويتها بعد بشري، وهي تعتبر ترشيح وهبي قاطيشا أمراً نهائياً لن تتراجع عنه، في وقت تنشط فيه عدة مجموعات شبابية مميزة في مناطق نفوذ تيار المستقبل تحت عناوين إنمائية مختلفة، تمهيداً لخوض الاستحقاق الانتخابيّ. ويضاف إلى هذا كله تأكيد نائب رئيس الحكومة السابق عصام فارس أن الإصابة في قدمه حالت دون احتفاله بعيد الفصح المقبل في عكار، لكنه سيكون في منزله العكاريّ حتماً في الأول من أيار.
وعليه، يمكن القول إنه مشهد عكاري غير مسبوق: أربع قوى قوية تتصارع في مناطق نفوذ المستقبل. حماسة استثنائية لناشطي المجتمع المدني، إضافة إلى تفاؤل عوني كبير بالوصول أخيراً إلى المجلس النيابيّ. وهو ما يوفر، بالنتيجة، عملاً لمكاتب الإحصاءات التي نادراً ما كانت تكلّف إعداد دراسات لعكار.
وكانت «غلوبل فيجن» المصنّفة في خانة المؤسسات المقرّبة من القوات اللبنانية قد استطلعت آراء عيّنة من الناخبين المسيحيين، ضمن دراستها التي شملت 12 قضاءً، وتبين أن نسبة تأييد قيام تحالف انتخابي بين التيار والقوات وسط المستجوبين المسيحيين في عكار تصل إلى 94.4 في المئة. وفيما تراوحت نسبة المؤيدين لشمول التحالف الأحزاب والشخصيات المسيحية المستقلة بين 80 و90 في المئة، تراجعت نسبة تأييد تفاهم العونيين والقوات مع الأحزاب المسيحية الأخرى إلى 70 في المئة فقط، علماً بأن الدراسة أجريت قبل التصعيد بين العونيين والكتائب.
ورغم أن نسبة تأييد تفاهم معراب بلغت 94.4 في المئة، قال 56.4 في المئة من المستطلعين إنهم سيلتزمون بلائحة العونيين والقوات كما هي.
إلا أن الأهم من هذا كله يكمن في التفاصيل اللاحقة التي تبين أن نحو 25 في المئة من المستطلعين لا يُسمّون أحداً حين تعرض عليهم أسماء المرشحين الأرثوذكس. ورغم أن نائب رئيس الحكومة السابق عصام فارس غائب عن عكار منذ أكثر من 12 عاماً، فإن 49.4 من المستطلعين يسمّونه مرشحاً أول أو ثانياً حين تعرض عليهم لائحة الشخصيات الأرثوذكسية. وهذا مؤشر الى واقع الأحزاب، كما هو مؤشر على تقصيرها الكبير تجاه عكار، رغم نشاط مسؤوليها في الخدمات الفردية المتفرقة.
المرتبة الثانية في استطلاع «غلوبل فيجن» تذهب إلى وزير الدفاع يعقوب الصراف، ولكن بفارق كبير عن فارس، إذ لا تتجاوز نسبة تأييده كمرشح أول وثان 24.9 في المئة. ولا شك في أن حقيبة الدفاع مثمرة انتخابياً ولها تأثيرها في المستطلعين، رغم تجنّب الصراف استثمار موقعه الوزاري انتخابياً.
أما المفاجأة الكبيرة فتكمن في حلول قاطيشا ثالثاً بنسبة تأييد 23.9 في المئة كمرشح أول وثان. وليس بعيداً عن الصراف وقاطيشا، يحلّ مرشح التيار الأرثوذكسي المفترض أسعد درغام رابعاً بنسبة تأييد 21.7 في المئة كمرشح أول وثان. والأكيد، هنا، أن النسبة التي يحوزها درغام مقبولة جداً باعتبار أنه ليس نائباً ولا وزيراً ولا حتى مرشحاً سابقاً. واللافت هنا أن المرشح مثل درغام أو قاطيشا أو الصراف يحوز نسبة تأييد تتجاوز ضعف ما يجمعه نائبا المستقبل نضال طعمة (7.6 في المئة) ورياض رحال (6.6 في المئة) معاً. أما نسبة تأييد فارس المقيم في لندن فتتجاوز ثمانية أضعاف نسبة تأييد طعمة ورحال الموجودَين في عكار. يكاد يمكن القول إن الفرصة التي سنحت للأخيرَين نادرة جداً، لكنّ أداءهما، كما تبيّن الدراسات الإحصائية، أسوأ من السيّئ. ولا يمكنهما القول إن المشكلة تتعلق بولائهما المستقبلي؛ فعند الانتقال من السؤال المتعلق بالمرشحين الأرثوذكس إلى المرشح الماروني يتبين أن النائب المستقبلي هادي حبيش يحل أول. وهو نال في انتخابات 2009 نحو ثلث أصوات المقترعين المسيحيين، في ظل دعم القوات والكتائب للائحة المستقبل. إلا أن القوات باتت في مكان آخر، فيما يواصل حبيش الحصول على 29 في المئة من أصوات المستطلَعين المسيحيين بحسب دراسة «غلوبل فيجن»، والسبب نشاطه الخدماتي والاجتماعي على الأرجح، فيما يحلّ مرشح التيار الوطني الحر جيمي جبور ثانياً بنسبة تأييد 21.5 في المئة، يليه النائب السابق مخايل الضاهر بـ18.2 في المئة، بينما قال 2.2 في المئة إنهم مع مرشح تحالف التيار ــ القوات، و1.4 في المئة إنهم مع مرشح التيار، وهو ما سيصبّ لاحقاً لمصلحة جبور.
وما يجب قوله هنا إن المؤيدين لحبيش يمكن أن يزدادوا نقطة أو نقطتين، فيما الصوت العونيّ ــ القواتيّ مشتّت اليوم بين جبور والضاهر وزياد البيطار وجوزف مخايل ومن يقولون إنهم مع مرشح تحالف التيار ــ القوات، ومع مرشح التيار من دون تسمية أحد. لكن فور الإعلان عن اللائحة سيزال هذا الالتباس.
في النتيجة، بمعزل عن تطابق الأرقام مع الواقع أو لا، ثمة واقع انتخابيّ جديد في عكار أياً كان شكل الدوائر والنظام الانتخابيّ. ولا شك في أن عودة عصام فارس تلائم في توقيتها حاجة «المستقبل» الماسة إلى ضابط إيقاع. فهو قادر على تشكيل لائحة قوية تجمع تيار «المستقبل» والتيار الوطني الحر، وتقنع بعض المرشحين بطيّ فكرة الترشح ووضعها جانباً. لكن يصعب القول أمام المشهد الحالي إن لائحة التفاهم العونيّ ــ المستقبلي، انطلاقاً من بلدة بَينو (حيث منزل فارس)، ستكون اللائحة الوحيدة. فالمصلحة التي تجمع العونيين والقوات، والعونيين والمستقبل، قادرة على جمع خالد ضاهر والبعريني والراسي وريفي وناشطي المجتمع المدني وعدة رؤساء بلديات واتحادات بلدية في لائحة واحدة... إن اقتضى الأمر!