تشير الاستراتيجية التي تعتمدها الإدارة الأميركية الجديدة في سوريا، بشكل واضح الى أن الأميركيون يسيرون بخطى حثيثة نحو تطبيق خطة تقسيم سوريا، وذلك من خلال تحرير مناطق من التنظيم الارهابي داعش واستلامها بالاشتراك مع قوات سوريا الديمقراطية، والمؤلفة بشكل أساسي من الأكراد وبعض المجموعات العربية.
ومع العلم أن خطة تقسيم المنطقة أو على الاقل سوريا والعراق، هي خطة أميركية قديمة، إذا لطالما صرّح العديد من المسؤولين الأميركيين أن تقسيم العراق بين السنّة والشيعة والأكراد هو الحل الأمثل للمنطقة، وعليه فإن التصور بأن الاتجاه الاميركي يسير نحو التقسيم في سوريا قد يكون هو الأقرب للتصور.
وبنظرة على الخريطة السورية الحديثة للمعارك، يظهر أنه يتم إشغال الجيش السوري بالمعارك في داخل المناطق لما سمي يومًا "سوريا المفيدة"، على أن يقوم الأميركيون بمنع الأتراك من التقدم الى مناطق الأكراد، والقيام بتحرير مناطق الشرق والشمال الشرقي من داعش وتسليمها الى سلطات محلية وإخراجها من سيطرة الدولة السورية.
وبالنظرة الى هذه الخريطة، يظهر بشكل واضح، أن الأميركيين يريدون قطع التواصل الجغرافي بين سوريا والعراق، بما يعاني قطع التواصل الجغرافي بين ايران وسوريا وبالتالي لبنان، لما لذلك من فوائد استراتيجية تمنع تشكّل "الهلال الشيعي"، كما تقلّص من قدرة ايران على مدّ نفوذها الاقليمي، وتمنعها من إمداد حلفائها بالسلاح عبر البر، وتريح اسرائيل وتفيدها، خاصة إذا كانت المنطقة المقتطعة من الاراضي السورية تشمل المثلث الجغرافي الذي قد يمنع تشكّل المقاومة في الجولان المحتل.
وبالنظر الى المصالح الروسية الاستراتيجية في المنطقة، يمكن القول أن ما يقوم به الروس والدعم الذي يقدمونه للأكراد، وبالنظر الى مصالحهم الحيوية في المنطقة واوروبا، فإن مشروع التقسيم الاميركي لا يضرّهم بشي، بل بالعكس، يحقق لهم العديد من المكاسب الاستراتيجية، على المدى الطويل وأهمها:
- منع الغاز الايراني من الوصول الى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، للتصدير الى اوروبا، باعتبار أن اتفاقية الغاز الموقعة بين الدولة السورية والدولة الايرانية عام 2010، تقضي بمد خط أنابيب من ايران عبر العراق، فالشمال السوري، الى الساحل. وبوصول الغاز الى الساحل السوري يمكن للغاز الايراني منافسة الغاز الروسي في اوروبا، وبالتالي خسارة اقتصادية واستراتيجية للروس، باعتبار أن ذلك يمنع الاحتكار الروسي لامداد الغاز الى اوروبا، مع ما يعنيه ذلك من نفوذ استراتيجي في المنطقة.
- باعطاء الأميركيين ما يريدون في سوريا والعراق، وبتقاسم نفوذ روسي أميركي يكون الروس قد ضمنوا ما حصلوا عليه من مكاسب في منطقة الشرق الاوسط، بالوصول الى المياه الدافئة، وبنشر قواعد عسكرية في سوريا، ولا يضير الروس شيئًا وجود قواعد عسكرية أميركية في الشمال الشرقي السوري، اي في منطقة الأكراد، الذين عرفوا كيف يكسبون ثقة الأميركيين والروس معًا.
- بالرغم من اعلان البنتاغون عدم الرغبة في التعاون مع الروس في سوريا، إلا أن تخلي ترامب عن استراتيجية "الاستنزاف" التي حاول أوباما تطبيقها، تفيد الروس بشكل أكيد.
تفاءل الروس بإمكانية الوصول الى تفاهم مع ترامب على حلول في الشرق الاوسط وشرق اوروبا، بسبب تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية. لكن مشكلة ترامب تكمن في الداخل وفي المكارثية الجديدة التي انتشرت في أميركا من خلال الحرب التي شنتها وكالات الاستخبارات ضده، ومولتها شركات سيليكون فالي، وسوّقها الاعلام الأميركي الموالي للفرع القديم للدولة العميقة.
ومع هذه الضغوط والحرب الداخلية ضمن الدولة العميقة، أصبح من الصعب على ترامب وفريقه الاستمرار بمتابعة إغواء الروس لفصلهم عن حلفائهم، لذا عاد ورضخ وأطلق البنتاغون إشارات تشير الى عدم الرغبة بالتعاون مع روسيا في سوريا.
يعلن الأكراد السوريون بشكل دائم، أن طموحهم الوصول الى فيدرالية تسمح لهم بحكم ذاتي ضمن الوحدة السورية، وهذا ما يتصوره الروس لمستقبل سوريا. لكن واقعيًا، إن التقسيم الواقعي ولو لم يكن بشكل جغرافي ثابت هو ما سيحصل في سوريا، خاصة في حال استطاع الأميركيون تحرير المناطق من داعش وسيطروا عليها، وسيطرت الدولة السورية على أجزاء الساحل والمدن الكبرى، واستمر الأتراك وحلفاؤهم في حكم الجزء الذي احتلته القوات التركية تحت مسمى "درع الفرات".... ومع تطبيق الهدنة، يكون هناك تقسيم واقعي لسوريا، وحتى لو لم يثبت بخرائط ثابتة تقسم سوريا الى دول بشكل نهائي.