بعد إنتهاء أعمال القمّة العربيّة، وإقرار المُوازنة العامة، ووضع مشروع مُعالجة ملفّ الكهرباء على السكّة الصحيحة، عادت الأنظار لتتركّز على قانون الإنتخابات النيابيّة المُقبلة، خاصة وأنّ المهل الدُستوريّة باتت أكثر من ضاغطة. وبعيدًا عن الكلام الجميل والمُنمّق الذي تُطلقه مختلف القوى السياسيّة، لجهة رغبتها بالتوصّل إلى قانون إقتراع جديد، بلغت الأمور مرحلة لم يعد من المُمكن معها الهروب إلى الأمام، حيث أنّ الحسم في المواقف صار مطلوبًا من الجميع خلال الأيّام القليلة المُقبلة كأبعد حدّ. فكيف هي مواقف الأطراف السياسيّة من المشروع الذي عرضه "التيّار الوطني الحُرّ" على مختلف القوى لدرسه وتقييمه وإبداء الرأي فيه، وهل سيُنصف "حزب الله" مشروع "التيّار" الإنتخابي أم سيخذله؟.
لا شكّ أنّ المشروع الثالث الذي قدّمه فريق عمل وزير الخارجية جبران باسيل، والذي يقوم على المزج بين صيغتي "التصويت الأكثري" و"التصويت النسبي" تعرّض ويتعرّض لحملات عدّة، بشكل مباشر وغير مُباشر، لجهة المُطالبة بإلغاء التصويت المحصور طائفيًا، وبتوسيع الدوائر الإنتخابيّة أكثر فأكثر ما لم يكن لبنان دائرة واحدة. وفي المَطلبين المُغلّفين بكثير من التباكي على الوحدة الوطنيّة، وبحرص زائف على إنصهار مُجتمعي، وبإدعاء كاذب بعلمانيّة بعيدة كل البُعد عن النفوس، يتمّ عمليًا ضرب حق المسيحيّين بإنتخاب نوّابهم، تمامًا كما يفعل المُسلمون في أغلبية المناطق، مع إستثناءات محدودة تكاد تُعدّ على أصابع اليد الواحدة. فهيمنة أصوات الناخبين السُنّة والشيعة والدروز على أصوات الناخبين المسيحيّين بمختلف مذاهبهم تشمل نحو ثلثي عدد النوّاب المسيحيّين، إمّا بشكل حاسم للنتيجة أو بتأثير جزئي لكن كبير على النتيجة. وهذه الهيمنة تكرّست بفعل التحوّل الديمغرافي الكبير في لبنان، وزيادة نسبة ولادات المُسلمين نسبة إلى ولادات المسيحيّين، وكذلك بفعل القوانين الإنتخابية المُجحفة وتقسيمات الدوائر غير المُنصفة والتي جرى إعتمادها في زمن الإحتلال السوري للبنان بعد إنتهاء الحرب، والتي رفض المُستفيدون منها التخلّي عن "مغانمهم" بعد الإنسحاب السوري!.
ووقائع "هضم" حُقوق الطائفة المسيحيّة كثيرة ولا مجال لحصرها في مقال واحد، لكن من ضُمن الأمثلة على ذلك، ليس سّرًا أنّ "تيّار المُستقبل" يريد الإبقاء على النوّاب المسيحيّين الذين ينتخبهم بأصوات مُؤيّديه السُنّة، ويرغب بالإبقاء على تأثيره الحاسم في العديد من المناطق من زحلة إلى الكورة، ومن عكّار إلى بيروت، إلخ. وليس سرًّا أنّ "الحزب التقدمي الإشتراكي" يُريد الإبقاء على النوّاب المسيحيّين الذين ينتخبهم بأصوات مؤيّديه الدروز، ويرغب بدوره بالإبقاء على تأثيره الحاسم في قضائي الشوف وعاليه وغيرهما من المناطق حيث يوزّع بعض المقاعد مِنّة على المسيحيّين. وليس سرًّا كذلك الأمر أنّ "حركة أمل" التي لم تهضم حتى اليوم فشلها في الإبقاء على سيطرتها على نوّاب منطقة جزّين المسيحيّين، لا تريد من جهتها فقدان ورقة الأغلبيّة العدديّة التي تمنحها سيطرة مُطلقة حيث يكون ناخبوها الشيعة.
من هنا إنّ دور "حزب الله" حاسم ومركزي بالنسبة إلى ما سيحصل على مُستوى قانون الإنتخابات النيابيّة المُقبل، لأنّ موقفه الداعم لتولّي العماد ميشال عون منصب الرئاسة، ساهم في عودة "الجنرال" إلى قصر بعبدا بصفة رئيس للجمهوريّة، مُتقاطعًا مع موقف التأييد الذي حظي به من حزب "القوات اللبنانيّة"، لينضمّ بعد ذلك "تيّار المُستقبل" إلى ضفّة المُؤيّدين من باب الواقعيّة السياسيّة، وبهدف إخراج الشغور الرئاسي من عنق الزجاجة. و"السيناريو" الذي نجح على مُستوى رئاسة الجمهوريّة، يُمكن أن يتكرّر في حال جرى تطبيقه في ملف قانون الإنتخابات.
فالمطروح اليوم هو مشروع قانون مُختلط جديد من قبل "التيار الوطني الحُر"، يحظى بتأييد حزب "القوّات اللبنانيّة"، وهو يرمي إلى إرضاء المُطالبين بكل من التصويت الأكثري والنسبي في آن واحد، ويهدف خُصوصًا إلى منح الناخبين المسيحيّين حقّ إيصال أكبر عدد مُمكن من النواب المسيحيّين، من دون تأثير أو ضغط أو منّة من الناخبين المُسلمين. وحتى هذا القانون ليس مثاليًا في هذا السياق، حيث أنّه من أصل 64 نائبًا مسيحيًا، لن يكون الناخب المسيحي قادرًا على إيصال سوى نحو 50 نائبًا تقريبًا، في تنازل طوعي عن المُناصفة النظريّة. وبالتالي، في حال أنصف "حزب الله" حليفه المُفترض، أي "التيار الوطني الحُرّ"، وأعلن دعمه لمشروع القانون المُقدّم من قبل رئيس "التيّار"، يُمكن أن يسلك هذا القانون طريقه إلى الإقرار، حيث ستجد باقي القوى السياسيّة الأساسيّة في البلاد نفسها أمام خيارين: إمّا الإنضمام إلى مشروع الحلّ وإجراء الإنتخابات، أو الإستمرار في إضاعة الوقت، كما حصل على مدى عامين ونصف العام في الموضوع الرئاسي! أمّا في حال خذل "حزب الله" حليفه "البُرتقالي"، فإنّ هذا القانون سيسقط كليًا، ليتنفّس عندها الراغبون بالتمديد أو بقانون مُفصّل على قياسهم الصعداء، مع الإشارة إلى أنّ "التيار الوطني الحُرّ" مُنفتح على أيّ تعديلات مُقترحة يُمكن أن تُوسّع دائرة المُوافقين على القانون، شرط ألاّ تكون على حساب حقوق المسيحيّين المَغبونين منذ عقود بالقوانين الإنتخابيّة.
وفي الختام، قد يكون الرد الأمثل من قبل تحالف "التيار–القوّات" على من يُهاجمون الدعوة إلى أن يُصوّت المسيحيّون لنوابهم والمُسلمون لنوابهم، ويصفونها بالنفس التقسيمي والمُتعصّب دينيًا والمُتخلّف ديمقراطيًا، المُوافقة على التصويت خارج القيد الطائفي والمذهبي كما يُطالب هؤلاء، لكن بشرط نقل ما لا يقل عن نصف مقاعد النوّاب المُسلمين إلى دوائر كسروان والمتن وبشرّي مثلاً، إنطلاقًا من نفس مبدأ "الإنصهار الوطني"، وهي الذريعة المرفوعة من قبل مُعارضي القانون المطروح حاليًا، والتي تجعل بعض النوّاب المسيحيّين يفوزون بمئات الأصوات المسيحيّة فقط في مُقابل عشرات آلاف الأصوات الإسلاميّة، كما يحصل في طرابلس أو دير الأحمر على سبيل المثال لا الحصر، علمًا أنّ الهدف الفعلي لهذا الموقف "الوحدَوي" شكلاً، يتمثّل في المضمون بالرغبة في الإستمرار بوضع اليد كليًا أو جزئيًا على نحو ثلثيّ النوّاب المسيحيّين!.