يتبارى بعض السياسييـن والنواب، ويُـجهدون أنفسهم لإقناعنا بصدقيّتهم وتـجرّدهم وحُسن نياتـهم وحرصهم الشديد على العيش الـمشتـرك والـميثاق وعلى تطبيق كل بند وحرف من الدستور، ويتنافسون على إظهار شغفهم بالعدالة، وعشقهم للمساواة، ويدّعون أنـهم لا يبالون بـمصالـحهم الـخاصة ومصالـح طوائفهم وعشائرهم، وآخر هـمّهم نتائج الإنتخابات، ومَن يكون الرابـح أو الـخاسر، هـمّهم الوحيد أن تنتصر الديـموقراطية وتتـحقّق العدالة ويتـمثّل كل الناس مهما كانت أعدادهم و"أحجامهم"!
صدّقناكم أيـها السياسيون والنواب، وصدّقنا وآمنّا بطهارتكم وحُسن نياتـكم، حرام أن لا تـمدّدوا لأنفسكم عشر مرات، لقد أبـهرتـمونا بأعمالـكم وإنـجازاتكم على كل الصعد، من الكهرباء إلى الـمياه إلى الطرق إلى النفايات إلى سلسلة الرتب والرواتب إلى الضرائب إلى الفساد إلى قانون الإنتخاب، وأبـهرتـمونا بنـزاهتكم وإخلاصكم ونكران ذواتكم، حتـى بتنا لا يـحلو لنا العيش من دونكم. وما الـمشاريع الإنتخابية التـي تطلقونـها وتروّجون لـها إلاّ خيـر دليل على طهارتكم وشهامتكم وحبكم لشعبكم.
ثـمانـي سنوات مضت وأنتم تتناكفون و"تتشاطرون" وتتذاكون على بعضكم البعض وعلينا، وكل فريق يقدّم الـمشروع الإنتخابـي الذي يؤمّن له الأكثـرية الـمطلقة فـي مـجلس النواب، غيـر آبه بآراء الناس وحقوقهم، ضارباً عرض الـحائط بـأهمّ ثلاث مسلّمات فـي الدستور : "الـميثاقية"، و "التمثيل الصحيح"، و"الـمناصفة" الـحقيقية بيـن الـمسيحييـن والـمسلميـن.
ايـها الزعماء والسياسيون، لو كنتم حقيقةً تريدون نواباً يـمثّلون شعبـهم لـما كنتم تتكلمون عن لوائح معلّبة، تارةً على مساحة الوطن، وطوراً على مـحافظات ودوائر كبـرى أو صغرى. يا جـماعة الـخيـر، لا يـجوز أن يكون قانون الإنتخاب إلاّ صورة عن واقع الـمجتمع الذي نعيش فيه، لا صورة عن مـجتمع آخر فـي بلد آخر، ولا صورة عن أفكاركم وحساباتكم وطموحاتكم الفئوية. كل نائب لا يـمثّل شعبه هو نائب "مزوّر"، ووكالته مزوّرة، ولا يستحق الدخول إلى مـجلس النواب. إن النائب الذي يـمثّلنـي، هو النائب الذي يتكلّم باسـمي ويعبّـر عن وجعي وهواجسي، لا الذي يتكلم باسـمكم ويزحف ويتملّق ليدخل لوائـحكم. إذا لـم أستطع مـحاسبة مَن مثّلنـي وتكلّم باسـمي طوال أربع سنوات، أكون خائناً لوطنـي وطائفتـي وأهلي ووجودي. فـي نظام اللوائح الذي تطرحون، إن كان وفق "النسبـي" أو "الأكثـري"، تتـحقّق الغلبة الديـموغرافية، وتسيطر الطائفة الأكثـر عدداً، ولا يعود للصوت الأقلّي أيّ قيمة، ولا للـمجتمع الـمدنـي، ولا للمستقليـن، ولا للعلمانييـن، ولا للفقراء غيـر الـحزبييـن، فقط مَن يرضى عنه ملك الطائفة أو شيخ القبيلة يدخل إلى جنة اللائـحة، أو يدخل الأثرياء الكبار الذين "يـموّلون" اللائـحة، ولا يصل إلى البـرلـمان إلاّ مَن يريده ملك الطائفة وليس إبن الطائفة. وفـي مـجتمعنا الـمفكّك والـمشرذم والـمنقسم طائفياً ومذهبياً وفكريّاً، لا شيء يـجمع بيـن مرشّـحي اللائـحة إلاّ الـمصالـح الذاتية والآنية وشهوتـهم للسلطة والتسلّط، وآخر هـمّهم الـمبادئ والبـرامج والقيـَم. فبـربكم يا أصحاب الـمشاريع الإنتخابية الذين تُـفصّلون قوانيـن على قياساتكم وأحجامكم، أَقنِعونا، كيف يـمكن للوائح "النسبية" أو "الـمختلطة" أن تؤمّن التمثيل الصحيح والـمناصفة الفعلية ? ونطرح هذا السؤال على الأحزاب الـمسيحية، لأنـها مسؤولة قبل غيـرها بالـحفاظ على الـمبادئ التـي ناضل واستشهد من أجلها آلاف الشهداء، وعلى ديـمومة الوجود الـمسيحي الـحرّ واللائق.
أيها السادة، فـي قانون "الستيـن" الـمشؤوم، أكثـر من 36 نائباً مسيحياً يدينون بوصولـهم إلى مـجلس النواب إلى قيادات وأصوات سنية وشيعية ودرزية. أليس القانون "الـمختلط" بشقّه الأكثـري يـمثّل جزءاً من قانون "الستيـن" ونتيجته معروفة سلفاً أما "النسبية"، التـي تُعتبـر إبنة الأحزاب والبـرامـج والـمبادئ، وإبنة الدول والـمجتمعات الديـموقراطية العريقة والـمتقدمة، حيث لا ذكر للـمناصفة فـي دساتيـرها، ولا مقاعد مـحدّدة لكل طائفة ومذهب، فقد غدت بيـن ليلة وضحاها، وبدفْع وتـرويـج من أحد الأفرقاء الأقوياء، "موضة العصر" وحجر الرحى، والتـي يتباهى بـها البعض بكل صراحة أنـها تُظهر الأحجام على حقيقتها. وهنا نسأل : هل أصبح هدف قانون الإنتخاب فـي مـجتمعنا الطوائفي هو تـحديد الأعداد والأحجام ? وهل تكلّم الدستور عن الأحجام أم على التمثيل الصحيح والـمناصفة والعدالة ? إلاّ إذا كان البعض لـم تعد تناسبه الـمناصفة وتستهويه الأحجام ! إن النظام "النسبـي" كما هو مطروح ، هو نظام أكثـري مقنّع، يــسحق الأقليات والـمستقليـن والعلمانييـن من كل الطوائف، ويكرّس الغلبة للأحجام الكبيـرة، ولا يعطي الـمسيحييـن سوى 42 نائباً فـي أحسن الأحوال، وبعد إثـنـتـي عشرة سنة سيهبط العدد إلى 34، وبعدها لا تسأل. إنـها فـي الواقع، "نسبية الأحجام" لا "نسبية الـمبادئ".
نـحن الناس البسطاء والسذّج، نطالبكم أن تـنـزعوا الغشاوة عن عيوننا وتـخبـروننا عن الـمبادئ والبـرامج التـي سيلتقي عليها الـمرشّحون فـي تلك اللوائح - الـمحادل التـي ستـجمع فـي صفوفها كل التناقضات على الساحة اللبنانية. كيف سيـجتمع فـي لائحة واحدة الـمرشّح الذي هو ضد السلاح خارج الدولة، مع الـمرشّح الذي يؤيّد السلاح خارج الدولة ? والـمرشّح الذي هو ضد تدخّل "حزب الله" فـي سوريا، مع الـمرشّح الذي يؤيّد هذا التدخّل ? والـمرشّح الذي هو مع الـمحكمة الدولية، مع الـمرشّح الذي هو ضد هذه الـمحكمة ? والـمرشّح الذي هو مع "إعلان بعبدا" مع الـمرشّح الذي هو ضد هذا "الإعلان" ? والـمرشّح الذي هو مع تطبيق القرارات الدولية 1559 و1595 و1701 و1757 ومع بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، مع الـمرشّح الذي هو ضد هذه القرارات وآخر هـمّه سيادة الدولة وقوانينها وهيبتها ?
يقول وزير الـخارجية جبـران باسيل : أول عمل وأول تغييـر فعلي مطلوب من العهد الـجديد هو قانون الإنتخاب، لأنه الأداة الفعلية الذي يـجعل اللبنانييـن يتمثّلون ويـحكمون بإراداتـهم". صحيح هذا القول، ونـحن نؤيّده، ولكن، هل سيسمح لنا قانون الإنتخاب الـمفروض علينا أن نـحكم بإرادتنا وبـممثّلينا الـحقيقييـن ?
يا إخوتنا فـي الإنسانية والوطن، إسـمحوا لنا أن نـختار مـمثّلينا الـحقيقييـن.