لا تصلح أدبيّات القوى الوطنية اللبنانية خلال الحرب الأهلية، أكثر مما تصلح الآن بعد ثلاثة عقود على انتهاء الحرب. ليس المقصود هنا طبعاً تكرار معزوفة «طريق القدس تمرّ من جونية» وتجارب ما بعد 13 نيسان، بل استشعار الخطر المحدق بلبنان من بوابّة الهواجس التي شكّلت عمق الحرب الأهلية، أي محاولات تقسيم لبنان من جديد لكن على «البارد» هذه المرّة (حتى الآن)، وتحويل الكيان الصغير إلى النموذج «الأنضج» للتقسيم الطائفي والمذهبي والعرقي في محيطه، كسياقٍ واحد بدأ منذ سقوط بغداد في نيسان 2003، وتجذّر مع إضعاف الدولة المركزية السورية منذ آذار 2011.
بعض اللبنانيين لم يفهموا أن النظام الطائفي عقيم، ولا ينتج دولة حديثة. وبدل البناء على أن إفلاس «المارونية السياسية» في نظام ما قبل الحرب ومن ثمّ «السنيّة السياسية» في ا، سببه البنية الطائفية للنظام، نجد جزءاً لا بأس به من هؤلاء، سياسيين و«نُخباً»، يرون في تثبيت التقسيم العُرفي في النظام الطائفي وتحويله إلى تقسيم فعلي في النص، سبيلاً وحيداً لتطوير النظام السياسي. وبدل أن يربط «الإصلاحيون» بين الفساد و«نظام 6 و6 مكرّر»، نجد هؤلاء يُحمّلون الفساد لفئات أخرى في المجتمع أو لمنظومة سياسية كانوا غرباء عنها في ما مضى، لكنّهم ما لبثوا أن استخدموا أدواتها حالما سنحت لهم الفرصة. والأنكى، أن هؤلاء باتوا يطرحون حلولاً للفساد، من زاوية تقزيم النظام السياسي المركزي إلى فيدراليات مناطق.
من هنا، تبدو أزمة اقتراح القانون الأخير الذي عرضه الوزير جبران باسيل أزمة رؤية لا أزمة حسابات انتخابية وعددية فحسب. فالقائل بالانتخابات النيابية بالنسبية الكاملة على أساس لبنان دائرة واحدة، يرى تحويل اللبنانيين إلى مواطنين المدخل لحل أزمة النظام السياسي والفساد المتجذّر، بينما يرى باسيل، أو هكذا يُفهم من قانونه «النواب المسلمين للمسلمين والمسيحيين للمسيحيين»، أن الحلّ للنظام السياسي هو في تجذير تقسيمه، «ولتعالج كلّ بيئة فسادها ومفسديها وحدها»، تماماً كما فتحت أزمة النفايات حديث الفدرالية على مصراعيه، قبل نحو عامين.
من هنا، لا تقع مواجهة فرض قانون انتخابي تقسيمي في ربع الساعة الأخير على عاتق حزب الله وحركة أمل وحدهما. فالنائب وليد جنبلاط، حُيّد من المعركة، إعلامياً على الأقل، لحظة حُسم الاتفاق على جمع عاليه والشوف في دائرة واحدة وفصلها عن باقي أقضية جبل لبنان. أمّا الرئيس سعد الحريري، الذي قَبِلَ بالنسبية الكاملة، فلن يواجه إذا سقط هذا الخيار. ومؤخّراً، ضاق الحريري ذرعاً بالنازحين السوريين، وهو الذي شجّع وحَرَّضَ غالبيتهم على القدوم إلى لبنان والاستفادة من «السخاء الدولي» مع بداية الأزمة السورية، ففتح بازار «التسوّل» على ظهورهم في مؤتمر بروكسل، ثم تنبّأ بوقوع «صدامات أهلية لبنانية ــ سورية»... وتلك، تنتهي عادةً بطلب فئة من الفئات بحمايتها من «الأكثرية»، تماماً كما حصل بعد الصدامات الأهلية «اللبنانية ــ الفلسطينية»!
رفض القوانين الانتخابية الطائفية والإصرار على قانون نسبي كامل على أساس لبنان دائرة واحدة، مسؤولية الأحزاب والقوى الوطنية اللبنانية والعابرة للطوائف قبل أي أحد آخر. في الأيام الأخيرة، عبّرت غالبية أطراف فريق 8 آذار، مسيحيين ومسلمين وعلمانيين، عن رفضها السير باقتراح قانون باسيل في لقاءات منفصلة مع نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم. ويمكن القول إن حصيلة النقاشات خرجت بشبه إجماع على المطالبة بقانون نسبي كامل على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة، مع ترك هامشٍ للنقاش في حجم الدوائر، على أن لا تكون هذه الدوائر «مقزّمة» على قياس مذهب أو طائفة.
وفيما لا يزال حزب الله وحركة أمل يصرّان على ملاحظاتهما حول قانون باسيل، من دون إبلاغه رفضهما الكامل لهذا القانون على أساس أن الملاحظات عليه تنسفه من أساسه، بات لزاماً على القوى الأخرى أن ترفع الصوت وتعبّر عن رفضها المطلق للقانون الانتخابي الطائفي وما يؤسّسه من تقسيمٍ فعلي للنظام السياسي، وفرض ما فشلت الحرب الأهلية في فرضه على اللبنانيين. فالرئيس نبيه برّي يهرب من رفع الصوت ضد قانون باسيل مع ضيق المهل الانتخابية، حتى لا يُفهم موقفه خشيةً شخصيّة من الفراغ في المجلس النيابي، وهو قال سابقاً إنه مستعدٌ لحمل السلاح من جديد والقتال ضد التقسيم، فيما يحرص حزب الله على عدم الصدام مع باسيل، وإفشال مساعي تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية في إحداث شرخٍ مع رئيس الجمهورية ميشال عون في هذه اللحظة الحساسة في المنطقة، وفي ظلّ مواقف الرئيس الداعمة للمقاومة، وسط التآمر العربي والغربي والإسرائيلي المتجدّد على لبنان ومقاومته.
لم يعد كافياً أن تنتظر قوى 8 آذار موقف حزب الله لتبني سقف تحركاتها على أساسه، أو تنتظر من الحزب أن ينظّم صفوفها للمعارضة. فلا حزب الله تقمّص الدور السوري في لبنان، ولا الشيخ نعيم قاسم أو «الحاج ساجد» يديران اللعبة كاللواء غازي كنعان. إذا كان حزب الله محرجاً في التعبير عن هواجسه، فما هي حسابات الآخرين؟ وباسيل يراهم «فراطة» أصلاً. ربّما يكون موقف هذه القوى مخرجاً للحزب لرفض القانون الطائفي من أساسه، أو حتى ضغطاً عليه كي لا يضعف أمام الابتزاز والخوف من الفراغ.
ومن هنا أيضاً، تقع مسؤولية «توضيح الموقف» على عاتق فخامة رئيس الجمهورية، وشرح موقفه من اقتراح قانون انتخابي يقسّم المؤسسة التشريعية، بدل توحيد اللبنانيين ونوّابهم في نظام مدني وطني يبدأ من قانون انتخابي على أساس النسبية. فكيف يكون «لبنان القوي»، إذا كان قانونه الانتخابي لا ينتج إلّا ضعفاً وفرقةً؟ وهل يستوجب الفصل بين الرئاسة والتيار الوطني الحرّ كل هذا التباين في المواقف بين الوطنية في خطاب الرئيس والطائفية في خطاب باسيل؟
مقاومة إسرائيل لا تأتي بالصواريخ والمواقف فحسب، بل باستفادة لبنان من تحوله إلى نموذج مضاد لـ«الدولة العنصرية»!