بعد ست سنوات على إندلاع الحرب السوريّة، بلغت مُشكلة النازحين السوريّين إلى لبنان مُستويات غير مَسبوقة من حيث الخطورة على الكيان اللبناني، إلى درجة دفعت معها رئيس الحكومة سعد الحريري إلى التحذير من أنّنا نقترب من "نقطة الإنهيار" بسبب ضُغوط إستضافتهم، مُبديًا خشيته من وقوع إضطرابات بين اللبنانيّين والسوريّين. فهل من أمل أن يحلّ مُؤتمر بروكسيل الخاص بمُعالجة مُشكلة النازحين السوريّين ما يعانيه لبنان من مشاكل مُتصاعدة، أم أنّنا نقترب فعلاً من مرحلة الصدام وربّما الإنهيار؟
لا شكّ أنّ الأرقام وحدها تتكلّم عن المشاكل والضُغوط التي بات يرزح تحتها لبنان، حيث تجاوز عدد النازحين السوريّين المُسجّلين أكثر من مليون نسمة بحسب إحصاءات المفوّضية العليا للاجئين، بموازاة نحو نصف مليون لاجئ غير مُسجّلين، أيّ أنّ السوريّين أصبحوا يُشكّلون ما بين ربع إلى ثلث السُكّان المُتواجدين على الأراضي اللبنانيّة. ويترافق هذا التغيير الديمغرافي الخطير مع تنامي عدد الولادات السنويّة للسوريّين في لبنان إلى نحو خمسين ألف ولادة في السنة، في مُقابل نصف هذا العدد للمواطنين اللبنانيّين! وبحسب أرقام وزارة العمل، إنّ مُزاحمة اليد العاملة السوريّة لليد العاملة اللبنانيّة تسبّبت بارتفاع نسبة البطالة في صفوف اللبنانيّين إلى نحو 25 %، بالتزامن مع إضطرار عاملين لبنانيّين آخرين إلى المُوافقة على الحُصول على رواتب مُتدنّية للإحتفاظ بوظائفهم بوجه المنافسة السورية غير الشرعيّة، حيث يمنع القانون اللبناني الأجانب (أي كل شخص غير لبناني) من مُزاولة مجموعة كبيرة من المهن على الأراضي اللبنانيّة! وبحسب وزارة الطاقة إنّ اللاجئين السوريّين في لبنان يتسبّبون بضغط إضافي على شبكة الكهرباء بمقدار 490 "ميغاواط"، الأمر الذي أسفر عن تخفيض التغذية بالتيار الكهربائي للبنانيّين بنحو 5 ساعات يوميًا، وبخسائر إضافية للدولة تبلغ 330 مليون دولار. والضغط السُكاني الكبير الذي صار يُعاني منه لبنان، إنعكس سلبًا على الموارد المائيّة، بحيث صار الشحّ في المياه مُخيّمًا على العديد من المناطق. كما إرتفعت خسائر الدولة نتيجة تزايد إستهلاك الخبز، وبالتالي الطحين المدعوم.
وبموازاة الضغط الديمغرافي، والخسائر الإقتصادية والمالية التي تلحق بالدولة اللبنانيّة وباللبنانيّين، يتسبّب النازحون السوريّون بمشاكل أمنيّة كبيرة، تبدأ بارتفاع وتيرة الجرائم العادية وتصل إلى التورّط بخلايا إرهابيّة. وبحسب أحدث الإحصاءات، يُوجد في السجون اللبنانيّة حاليًا نحو 1550 سجينًا سوريّ الجنسيّة، في مُقابل 3850 سجينًا لبنانيًا، و885 سجينًا من مختلف الجنسيّات، ما يرفع نسبة السوريّين المسجونين إلى 26 % من إجمالي عدد المساجين!، ولا يكاد يمرّ يوم من دون تسجيل أكثر من حادث أمني بين سوريّين ولبنانيّين، فهنا جريمة قتل، وهناك سرقة أو إعتداء بالضرب أو السكاكين، وهنالك تهديد وترويع للآمنين وللسكان اللبنانيّين، إلخ. ونسبة الإحتكاكات بين اللبنانيّين والسوريّين في إرتفاع مُستمرّ في أكثر من منطقة، لأسباب مُختلفة، وفي طليعتها الأسباب الإقتصادية والمنافسة المهنيّة غير الشرعيّة، الأمر الذي يُنذر بمخاطر كبيرة ما لم يتمّ تداركه سريعًا.
وبالنسبة إلى الآمال المعقودة على نتائج مُؤتمر بروكسيل الذي سيبحث سُبل معالجة مُشكلة النازحين السوريّين الذين تجاوز عددهم عتبة الخمسة ملايين شخص مُوزّعين على كل من لبنان وتركيا والأردن والعراق وعلى مختلف دول العالم، فإنّها محدودة، على الرغم من أنّ الدولة اللبنانيّة تبدو مُوحّدة نظريًا إزاء هذا الملف، وعلى الرغم من أنّ رئيس الحكومة سيُقدّم خطّة عمل تمتدّ على مدى سبع سنوات وتُطالب المُجتمع الدَولي بدفع ما بين 10 إلى 12 ألف دولار عن كل لاجئ عبر الإستثمار في البنى التحتيّة اللبنانيّة. لكن حتى لو إستجاب المُجتمع الدَولي لخطة الحكومة اللبنانيّة، إن جزئيًا أو حتى كليًا، فإنّ هذا الأمر لن يُعالج مُشكلة النازحين السوريّين في لبنان، بل سيُمكّن السُلطة من كسب المزيد من الوقت وسيُساعدها على مُواجهة الضغوط لفترة زمنيّة أطول فقط لا غير.
فالمُعالجة الفعليّة تبدأ بتوقف مسؤولي الدولة اللبنانية عن التعاطي بخفّة مع ملفّ النازحين وعن التعامل بغضّ نظرعن الضغط الديمغرافي والإقتصادي والأمني الخطير على الكيان اللبناني، وأيضًا بتوقف القوى السياسيّة المُختلفة في لبنان عن إحتساب مَن مع النظام السوري ومن ضدّه من بين النازحين بنيّة التوظيف السياسي والأمني في المُستقبل، وكذلك الأمر بتوقف بعض اللبنانيّين عن التعاطي مع هذا التحوّل المُهدّد لأسس الدولة بنظرة مصلحة شخصيّة واقتصاديّة ضيّقة لتوفير بعض الأموال هنا وللتهرّب من رسوم ضمان هناك. والمُعالجة الفعليّة تبدأ بتنظيم الحُضور السوري في لبنان وفق سجلات غير منقوصة، وبضبط هذا الحُضور أمنيًا عن طريق حصر بقع إنتشاره الجغرافيّة. والمُعالجة الفعليّة تبدأ أيضًا بالعمل جديًا على إعادة من لا يُعارضون النظام السوري إلى مناطق سيطرته الواسعة في سوريا، وبالعمل جديًا مع الأمم المتحدة والدول الغربيّة على نقل من يرفضون العودة إلى مناطق سيطرة النظام إلى مخيّمات إيواء حُدوديّة خارج الأراضي اللبنانيّة.
وفي الختام، المسألة ليست عنصريّة إزاء السوريّين أو سواهم، وليست تهرّبا من مُؤازرة إنسانية لمُحتاج في أوقات الشدّة، إنّما مشاكل لبنان واللبنانيّين الداخليّة كفيلة وحدها بإهتزاز الكيان اللبناني، ولا قُدرة بالتالي على تحمّل أيّ ضغوط خارجية إضافيّة، علمًا أنّ لبنان فتح أراضيه للنازحين السوريّين على مدى ست سنوات كاملة، وأدى واجب الضيافة على أكمل وجه! والخوف كل الخوف أن يتحوّل هذا النزوح المُوقّت إلى دائم بحكم الأمر الواقع، كما حصل مع اللاجئين الفلسطينيّين إلى لبنان، وعندها لن ينفع الندم، ولا تبرير ما قد يقع من أحداث مُدمّرة في المُستقبل، في تكرار مُستهجن لسيناريو سياسة التجاهل للمُعطيات الخطيرة التي مهّدت لأحداث العام 1975! فعدم معالجة مُشكلة النازحين السوريّين جديًا اليوم قبل الغد، يعني أنّ الإنفجار آت لا محالة... ولوّ بعد حين!