في زحمة الانتصارات السورية المتعدّدة العناوين والتي سجلت خلال الأشهر الستة الماضية تباعاً من غير توقف، كانت العصابات الإرهابية وبعض الأساسيين في معسكر العدوان على سورية بحاجة إلى صدمة عنيفة غير عادية توقف سيل الانتصارات السورية وتحجب ما تحقق منها وتمنع استثماره من جهة ومن جهة أخرى توقف الانهيار الميداني والسياسي في معسكر العدوان الذي سجل في الشهر الأخير أسوأ مظاهره وأشكاله على المسارين الميداني والسياسي.
وفي الخيارات المتاحة لم يكن بيد العصابات الإرهابية الكثير مما تقوم به، خاصة بعد أن فشلت الغزوة الانتحارية المزدوجة التي أمرت بها تركيا في جوبر والغوطة الشرقية ضدّ دمشق وفي ريف حماه الشرقي بغية الوصول إلى حماة، حيث إنّ فشل هذه المحاولة معطوفاً على إفراغ ورقة «درع الفرات» التركية من محتواها حمل الأتراك على الإعلان عن وقفها. كلّ ذلك أفهمَ تركيا وبشكل قاطع أنّ المواجهة الميدانية او العمل الميداني القتالي لم يعد مجدياً الآن لوقف الزحف السوري التحريري والتطهيري. وعليها إما الاستسلام للواقع كما يفعل العقلاء أو اختيار مسار جنون وإجرام آخر يحقق مصالح لها. وطبعاً لا تعمل تركيا بما يمليه العقل.
اما الإرهابيون فقد استفاقوا وبعد أشهر من الاسترخاء في ادلب، على واقع مؤلم لا يريحهم. واقع مفاده أن حشرهم في ادلب لن يكون تسهيلاً لإقامة إمارتهم الإرهابية الدائمة بأشرف تركي طبعاً، بل إنّ تجميعهم هناك هو مقدّمة لاجتثاثهم حتى تكون عملية تطهير إدلب هي الحلقة الأخيرة في سلسلة عمليات تطهير الأرض السورية من الإرهاب، ويبدو أن نتائج مواجهات ريف حماة الشمالي والشرقي أكدت للعصابات هذا الأمر، ثم جاء القرار الأميركي مثيراً للتركي ويراكم إحباطه، لجهة تجميع 17 فصيلاً مسلحاً بقيادة أميركية تحاكي فيها أميركا نهجها في تدريب وقيادة «قسد» الكردية على جبهة الرقة، حتى تقوم بعملية غزو في إدلب تمكّنها من امتلاك ورقتها لاستعمالها في التفاوض الآتي الذي سيكون عبره تكريس المخرج السياسي من الأزمة السورية.
لقد وجدت جبهة النصرة، وخلفها طبعاً تركيا وبعض الفصائل التي تدور في فلكها، أن الرياح تسير عكس ما تشتهي أشرعة سفن مصالحها وأهدافها، وكان الموقف الأميركي الأخير من الحكومة السورية والتأكيد العلني الواضح بأن «الحكم في سورية هو شأن سوري داخلي محض»، ومهمة اميركا هناك «محصورة بمحاربة الإرهاب والشعب السوري يقرّر مستقبلاً أي رئيس يحكمه». كان هذا الموقف بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير التركي الذي اعتدى على سورية منذ 6 سنوات وقتل ودمّر وشرّد وسرق كل ما طالته يده فيها. فعل كل ذلك تحت عنوان «لا شرعية الحكم القائم»، وأنها، أي تركيا، تريد إقامة حكم الإخوان المسلمين فيها. والآن ترى وضوحاً أن حلمها بات مستحيلاً وأن قيادة معسكر العدوان تخلّت عنها. ومع هذا الواقع المرير كان على تركيا معها طبعاً جبهة النصرة ومَن في فلكها القيام بعمل ما حتى، ولو كان في منتهى الجنون والإجرام من أجل تغيير وجهة الرياح ووقف الانهيارات في صفوفها…
لكل ما تقدّم وبسبب ضيق الخيارات التقليدية والمعقولة إلى حد الانعدام، وجدت تركيا، ومعها جبهة النصرة، أن العودة إلى مسرحية استعمال الكيماوي أمر مفيد خاصة أنها استعملته في حلب في الأشهر الأخيرة، وتسبّبت بما تسبّبت به من أضرار في صفوف المدنيين والجيش العربي السوري ولم يتوقف أحد عند جريمتها وطبعاً لم يثر أحد مسألة معاقبتها على الجريمة. فمعسكر العدوان الذي رفض حتى مجرد بيان من مجلس الأمن يُدين العملية الإرهابية التي ارتكبت في قصر العدل في دمشق لن يسمح مطلقاً بأي تدبير يمسّ العصابات الإرهابية وتستفيد منه الحكومة السورية. وبالتالي ولأن الخيارات ضيّقة واللجوء إلى الكيماوي ممكن من غير حساب، فقد عاد بعض معسكر الإرهاب إلى الكيماوي مجدداً للاستثمار فيه. وكانت «مسرحية خان شيخون الكيماوية» التي تمثّلت باتهام الطيران السوري والروسي معاً أو أحدهما بإلقاء قنابل تحتوي غازات سامة أدت إلى قتل 18 شخصاً، وتضرّر 40 بنتيجة التسمّم والاختناق.
قد يكون وجود الغاز في المحلة وتضرّر من تضرّر أمراً صحيحاً، ولكن وحتى لا نضيّع الوقت كثيراً في البحث عن حقيقة هذا الوجود، ثم البحث عن مرتكب التفجير فإننا انطلاقاً من حيثيات المشاهد والنتائج وطريقة التسويق والعرض والإعلان معطوفاً على ما تمّ تداوله إعلامياً قبل الحادث وما تمّ استثماره بعده، نستطيع القول إلى حد الجزم بأن الإرهابيين خططوا لمثل هذه الجريمة ونفّذوها على وجه من اثنين: الأول إقدامهم على تفجير مستودعات تحتوي ذخيرة مشتملة على أسلحة كيماوية، أو تخزينهم للقنابل المحشوة بالمواد المنتجة للغازات السامة، في مخازن يعلمون أن الطيران سيستهدفها. وكلا الفرضين ممكن خاصة وقد تأكد لبعض المتابعين أن العصابات الإرهابية استقدمت من العراق خلال الأشهر الأخيرة أسلحة كيماوية عبر تركيا، وأن آثار الانفجار ونتائجه تشبه إلى حد التطابق ما حصل في حلب منذ أربعة أشهر.
وعلى هذا الأساس، فإننا لا نحتاج إلى الكثير من الأدلة والبراهين حتى نقنع عاقلاً بأن ما ذُكر من استعمال للغازات السامة في خان شيخون، إنما تمّ بيد وقرار إرهابي عدواني، يجب أن تسأل عنه بشكل أساسي تركيا وجبهة النصرة. قرار اتخذ لحجب هزائمهم ومنع سورية من مواصلة انتصاراتها الميدانية والسياسية وقطع الطريق على أميركا في عملية التحول السياسي والنظرة إلى الحكومة السورية بقيادة الرئيس الأسد، واختلاق ذريعة للإرهابيين ولتركيا معهم لوقف العمل بقرار وقف العمليات القتالية والتنصّل من موجباتهم فيه، كما ووقف العملية السياسية الجارية بين أستانة وجنيف، لأنها تجري الآن في غير صالحهم نظراً لخواء أيديهم من أوراق القوة.
هذه الأهداف التي رمت إليه تركيا وجبهة النصرة أداتها ولا نستبعد أيضاً شراكة السعودية وقطر وفرنسا في المنظومة العدوانية ذاتها، هذه الأهداف كانت بحاجة لمسرحية كيماوية لتحقيقها، فجاءت المسرحية على هذا الشكل السيئ الإخراج المكشوف الثغرات المنافي لأبسط قواعد المنطق العسكري الذي يقول بأن العاجز في الميدان عن تحقيق أهدافه بالسلاح التقليدي يلجأ إلى السلاح غير التقليدي ليسدّ العجز ويعوّض الخسارة. وهذا المنطق يبرئ حتماً سورية المنتصرة ويدين قطعاً معسكر الإرهاب المهزوم. ولكن ومع هذا وفي ظل مجافاة المنطق والعدالة هل ستحقق المسرحية الفاشلة شيئاً من أهدافها؟
لا نجد ضرورة للإسهاب هنا في العرض وتفصيل الاحتمالات، ونقول إن ما سبق وجرى من مسرحيات مماثلة لم يعط العدوان شيئاً من الأوراق إن في مجلس الأمن أو في الميدان اللهم إلا إذا استثنينا موضوع الملف الكيماوي الذي تخلّت عنه سورية في العام 2013 واليوم لم يعُد هناك شيء يساوم عليه بهذا الصدد. أما في مجلس الأمن فإن الفيتو الروسي الصيني المزدوج سيكون بالمرصاد للموقف الفرنسي المتوتر الذي ستخمد ناره بعد ساعات من الصراخ أما في الميدان، فإن قطار العمليات العسكرية حدد سكته وشق طريقه باتجاه لا يناسب اهداف مختلقي المسرحية، التي سيسدل الستار عليها بعد أن ذهب ضحيتها سوريون أبرياء استعملوا سلعة في تجارة إرهابية عدوانية دنيئة وخسيسة.