عادت إدلب إلى الواجهة من جديد، في وقت تنهمك روسيا بملاحقة تفاصيل الهجوم الإرهابي الذي استهدف محطة المترو في بطرسبرغ، وتحديد هوية منفّذه الانتحاري. لا يتردد الخبراء والمحللون العسكريين الروس في تأكيد أن الهجوم سيحفّز من الآن وصاعداً عملاً عسكرياً متصاعداً باتجاه "موطن" الجماعات الإرهابية الذي استحكم على الأرض السورية، وبات يهدد الأمن القومي الروسي بشكل مباشر، من دون إغفالهم أن إدلب عادت سريعاً غداة الهجوم لتُتوَّج أولوية عسكرية على طاولة كبار القادة العسكريين الروس. وفيما انهمكت دوائر التحقيقات الروسية بالعمل على تحديد هوية من يقف وراء الهجوم، لتعلن بعدها المصادر الأمنية الروسية أن القرغيزي الأصل والروسي الهوية أكبر جون جليلوف هو الانتحاري المنفذ، "وعلى صلة بمتشددين في سورية"، نُفِّذ هجوم "التفافي" في إدلب، تحديداً من باب "الكيماوي" مرة أخرى، بتوقيت مشبوه، وكان جاهزا كالعادة لإلصاقه بدمشق.. وموسكو أيضاً.
لا تُسقط موسكو من حساباتها تورُّط أنقرة بالهجومين على حد سواء، سيما أن تقارير عدة كشفت عن تهريب جماعات مسلَّحة تتبع لأنقرة، مواد تُستخدم في صناعة الأسلحة الكيماوية، من تركيا إلى إدلب، كما أن الهجوم على محطة المترو في بطرسبرغ الروسية، أتى بعد يوم واحد من رسالة نارية مررتها موسكو إلى أنقرة ليل الأحد الفائت على الحدود التركية مباشرة، مسبوقة بأهداف "ذهبية" سدّدها الجيش السوري والمقاتلات الروسية في المرمى التركي، خلال معارك ريف حماه الشمالي الأخيرة.. فما الذي حصل؟
ليل الأحد الماضي لم يكن نشاط المقاتلات الروسية مشابهاً لغيره في سماء شمال إدلب، تحديداً على الحدود التركية، فرغم التغطية الجوية الروسية المركَّزة والمتواصلة التي رافقت عمليات الجيش السوري في صد الهجمات المسلحة الضخمة على ريف حماه الشمالي في 22 آذار الماضي، إلا أن الغارات الروسية التي طبعت تلك اللية وُصفت بغير المسبوقة؛ أكثر من عشر غارات باتجاه هدف "ثمين"، ما لبثت أن لفّت نيرانها بلدة بابسقا الحدودية مع تركيا، ليتبين لاحقاً أن الهدف هو مخازن مكدّسة بصواريخ "تاو" المضادة للدروع، لعبت الدور الكبير في إمداد "غزوة" المجاميع المسلحة على ريف حماه، وليتمّ تدميرها بشكل كامل.
الإستهداف بالطبع أتى بعد عملية رصد دقيق، وغداة تعاون الإستخبارات السورية والروسية، التي أفضت معلوماتها إلى أنّ الكميات الضخمة من تلك الصواريخ بدأ تجهيزها وتوضيبها من قبَل الاستخبارات التركية في مخازن البلدة الحدودية قبل شهرين ونيف من بدء الهجمات المسلَّحة على ريف حماه، وهو أمر أكّدته أيضاً معلومات مركز "فيريل" الألماني للدراسات.
وفيما استوقف الخبراءَ والمحللين العسكريين ردُّ الجيش السوري العنيف على تلك الهجمات، ومبادرته إلى امتصاص ضخامتها ليسترجع غالبية القرى والبلدات التي تمّ خرقها، بدا لافتاً
الدور الروسي في التغطية الجوية المكثفة والمتواصلة، ما يدلل على أهمية استثنائية أولتها القيادة العسكرية الروسية لمعارك ريف حماه، إلى حدّ إشارة مصادر صحافية مقرَّبة من الكرملين، إلى مشاركة كبار ضباط وزارة الدفاع الروسية في متابعةٍ مباشرة للهجمات التي كانت تشنّها مجاميع "النُّصرة" وحليفاتها شرق دمشق، وتلك التي أعقبتها مباشرة على ريف حماه الشمالي من قبل ميليشيات مسلَّحة تتبع لتركيا.
ثمة ما أثار حنق القيادة الروسية، التي كانت تردها تقارير أجهزتها الأمنية والاستخبارية، مُبرزة أعداداً كبيرة من المرتزقة الشيشانيين والقوقازيين والتركستان في واجهة تلك الهجمات التي أدارتها أنقرة بشكل مباشر، ووجود هؤلاء المرتزقة بتلك الأعداد أجمعت عليها أيضاً تقارير ميدانية دُعمت بشهادات سكان القرى والبلدات التي تمّت مهاجمتها، وهو أمر لمست فيه موسكو استفزازاً تركياً غير مسبوق، ودلالة على أن تركيا مازالت تنسّق معهم، وهم المصنَّفون في خانة العداء التاريخي لروسيا، ولعل هذا ما جرّ سريعاً تدخل المقاتلات الروسية التي بادرت فوراً إلى مؤازرة لافتة لوحدات الجيش السوري، واكبتها تعزيزات عسكرية دعمت عملياته، فكانت الحصيلة مقتلة جماعية في عداد المهاجمين، تجاوزت عتبة ثلاثة آلاف قتيل.. الردّ لم يقتصر على ذلك، بل تُوِّج بأسر ضابطين تركيَّين كانا يديران الهجمات، إضافة إلى قائد ميداني شيشاني، وفق ما تداولته معلومات صحافية، استناداً إلى مراسلي وكالات أنباء روسية في سورية.
لم تكتفِ المقاتلات الروسية بهذه النتيجة، بل آثرت تتويجها بـ"مجزرة" مخازن صواريخ "التاو" ليل الأحد الماضي.. الرسالة لا شك أثارت حنق أنقرة، التي كانت ماتزال تشفر حيثيات فشل هجمات ميليشياتها المسلحة في ريف حماه، رغم تجهيزها مسبقاً بكل الإمكانيات الاستخبارية واللوجستية النوعية، وسريعاً، وفي توقيت لا يبدو محض صدفة، نُفِّذ الهجوم الإرهابي على محطة المترو في بطرسبرغ، تزامناً مع وجود الرئيس فلاديمير بوتين في المدينة، لتمثل رسالة مضادة بالطبع، ضد روسيا، وضد بوتين بالذات، حسب ما أعلن الكرملين.
وعَد بوتين غداة الهجوم الإرهابي بردٍّ قاسٍ جداً على الإرهابيين، ويدرك القيمون على مراكز القرار المعادية، أن ثمة قرارات هامة تمخّضت عنها قمة بوتين - روحاني الاستراتيجية في موسكو. مصدر عسكري روسي كشف مساء الثلاثاء، أن بوتين عمّم أمراً على كبار ضباطه ومعاونيه يقضي بعدم السماح لعودة أي إرهابي ذي أصول روسية من سورية إلى روسيا مهما كلّف الأمر، ولدى سؤاله عما إذا كان الهجوم الكيماوي على بلدة خان شيخون في إدلب سيفرمل أي عمليات قادمة لتحريرها، سيما أن الدول المعادية بادرت فوراً إلى الطلب من مجلس الأمن الانعقاد لاستصدار قرار دولي يستهدف دمشق، اكتفى المصدر بالقول إن "الرئيس يتجهّز لحدث كبير في سورية".