المنطقة من حولنا تغلي. ويبدو أننا مقبلون على أوقات عصيبة، لكنها عصيبة على الجميع هذه المرة. وسواء قرر لاعبونا المحليون تجاهل الأمر، أو غرقوا في تحليله، فإن الأولوية، اليوم، تبقى إقرار قانون جديد للانتخابات.
وهي مهمة، سيكون منطلقها في مجلس الوزراء ابتداءً من اليوم، قبل أن ننتقل الى جولة ثانية في المجلس النيابي، ثم إلى حيث المواجهة الأكبر، حول تاريخ الانتخابات، ونوعية التحالفات التي ستظل رهن نوعية نظام الاقتراع الذي سيقرّ.
الجميع يعرف مواقف الجميع. لم يعد هناك من أرانب معدّة للخروج من القبعات. وكل المناورات جرت. لكن لاعباً واحداً لا تزال في يده البطاقة الحمراء هو الرئيس ميشال عون. وفي مقدوره أن يصوّب الأمر، أو أن يترك الجنون يمضي الى ما يطابق جنون المنطقة، فلا تكون هناك انتخابات، ولا من يحزنون.
والبطاقة الحمراء في يد الرئيس ليست للاستخدام من أجل عدم حصول الفراغ أو التمديد للمجلس النيابي، بل هي فعالة، حصراً، في مواجهة سعي الطبقة السياسية الى التجديد لنفسها، وخنق الحياة السياسية نهائياً، من خلال صيغ لقوانين تمنع التغيير، أو حتى الاختراق. وهو أمر ما كان ليكون قاسياً الى هذا الحد لولا تورط التيار الوطني الحر في طرح مشاريع قوانين، لا تختلف في جوهرها عن كل مشاريع القوى الطائفية المتحكمة بالبلاد، ما أحدث صدمة عامة في البلاد. وهي صدمة لم تقتصر على قوى سياسية دون غيرها، أو على جمهور دون غيره. وما زاد الطين بلة المطالعة النظرية – الأيديولوجية – التي قدمها الوزير جبران باسيل في مقالته أول من أمس في «النهار»، والتي دلت على خلفية فكرية وسياسية لمن يريد منع المواطنين من التفاعل انتخابياً، ولا يمانع التصويت الطائفي الضيق، ويتراجع بسهولة عن تأييد اعتماد النسبية الكاملة مدخلاً لتغيير حقيقي يفتح الباب أمام إصلاح حقيقي تحتاج إليه البلاد.
لذلك، لم يعد يوجد في لبنان سوى الرئيس عون من يقدر على استخدام حق الفيتو ضد هذه المقترحات، وما يعادلها من قوانين المحادل السياسية أو الطائفية. وهو الوحيد القادر على قلب الطاولة من دون مضاعفات سياسية مدمّرة. ومتى قرر الرئيس عون العودة الى تثبيت مطلب النسبية الشاملة، سيكتشف أن غالبية شعبية حقيقية تقف الى جانبه، وستكون أكثر حيوية وفعالية عندما تشعر بأن في مركز القرار من ينظر الى الناس على أنهم مواطنون متساوو الحقوق والواجبات، وليسوا مصنفين بحسب مذاهبهم وطوائفهم ومناطقهم وطبقاتهم الاجتماعية.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن بيروت شهدت، أول من أمس، استحقاقاً سياسياً ومهنياً، له من النتائج ما يساعد الرئيس عون، على وجه الخصوص، على تلمّس واقع الجمهور وحاجاته ورغباته. إذ إن انتخاب الناشط المعارض للسلطة، جاد ثابت، نقيباً للمهندسين في بيروت، لم يكن عملاً نقابياً صافياً، بل كان فيه السياسي والنقابي والمهني والمصلحي أيضاً. وهي العناصر المكوّنة لكل المعنيين بقانون الانتخابات.
جاد ثابت ليس ناشطاً محايداً. لديه رأيه السياسي الأقرب الى كتلة يتشارك فيها يساريون وليبراليون مع مستقلين لديهم طموحاتهم المهنية والسياسية. ويقف هؤلاء، اليوم، في وجه ما يقوله الرئيس عون وحلفاؤه في المقاومة والإقليم. لكن للرجل صفاته التي ساعدت على اختياره مرشحاً لمعارضي مرشحي أحزاب السلطة. كما أن ترشيحه جاء بعد حصول توافقات وتنازلات هي الأولى من نوعها وحجمها وصلابتها، بين المجموعات السياسية والمهنية والقطاعية التي دعمته، وهي نفسها التي لم تنجح في التشارك لمواجهة استحقاقات أخرى، من بينها الانتخابات البلدية الأخيرة.
ما حصل، عملياً، هو أن الباب فتح أمام بروز عصبية مقاتلة عند كتلة بشرية مجبولة بالسياسة والهمّ العام. قاد هؤلاء حراكاً مكثفاً دعماً لثابت. ونجحوا في مد الجسور مع أفراد آخرين من تيارات سياسية، موفرين لهم المساعدة للانضمام الى هذا التجمع، ومن دون النظر كثيراً الى الأسباب، بين إعجاب بشخص ثابت، أو تعبيراً عن ضيقهم من إدارة حملة المرشح العوني بول نجم. وترافق ذلك مع سلوك كيدي لقوى من أحزاب السلطة، قررت التصويت الى جانب ثابت، كفعل احتجاج أو انتقام من الآخرين.
لقد شهدت انتخابات نقابة المهندسين، السبت، مجموعة من الظواهر اللافتة. بينها خذلان «القوات اللبنانية» لمرشح التيار الوطني الحر لمنصب النقيب، وتذكر النائب وليد جنبلاط صديقه الراحل عاصم سلام في اللحظة الأخيرة، وتفلّت أعضاء في قوى سياسية، من التوجهات المعلنة لقواهم السياسية، وكل هؤلاء صوّتوا لمصلحة المرشح ثابت، وربما منحوه نحو ربع الأصوات التي حصدها وفاز بها على مرشح تحالف أحزاب السلطة بول نجم.
لماذا حصل ذلك؟
لقد حصل ذلك لأن ما تشهده البلاد منذ انتخاب الرئيس عون، لا يمثل طموحات الساعين الى انطلاقة قوية لقطار التغيير. ولأن عودة سعد الحريري الى رئاسة الحكومة تمت من دون أي محاسبة على المرحلة الماضية، وفي ذلك مؤشر على رغبة بعدم المحاسبة العامة. ثم بسبب تسويات وصفقات ومحاصصات رافقت كل التعيينات الإدارية الأمنية والعسكرية، الأمر الذي تسبب بإحباط كبير عند المتفائلين بتغيير حقيقي. وجاءت الطامة الكبرى في التفاهم بين سعد الحريري وجبران باسيل، على السير في قانون انتخابي، كله طائفية ومذهبية وإقصاء واستحواذ، ومن تحته ومن فوقه تعقد الصفقات الكبرى على كيفية إدارة الدولة لاحقاً.
عملياً، أتيح للمعارضين لهذه الثنائية، وللمتضررين منها، سواء من أهل السلطة نفسها، أو من الجمهور، أن يعبروا في موقعة نقابية ــــ سياسية، عن احتجاجهم الكبير. وهو احتجاج ليس بإمكان المجتمعين اليوم في مجلس الوزراء تجاهله. كما لا يطلب أحد منهم المبالغة في تصوير حجمه. والتوجه مباشرة الى الرئيس عون، سببه أنه الوحيد الذي يملك كامل هوامشه التي تجعله ينظر الى ما جرى في نقابة المهندسين على أنه جرس إنذار قوي. وكل مكابرة، أو إنكار، يعني دفع الناس نحو مواجهة قاسية مع فرقة النصابين المتحكمين بالبلاد، وإذا ما تجاهلها الرئيس عون، نكون أمام مشكلة كبرى.
قد يكون أخيراً، لفت انتباه للرئيس عون، الى قدرته على النظر الى الأمور من فوق الحشد السياسي في مجلس الوزراء، والتمسك بهذه الحفنة من المهنيين الذين رفعوا صوتهم، بأغلبية مخلصة وأقلية مخادعة، والعمل على فتح الباب أمامهم ليشاركوا في أكبر تغيير حقيقي تحتاج إليه البلاد. ولن يتأخر الوقت حتى يكتشف عون أن لديه بين الناس حزباً أكبر من كل الأحزاب والتيارات.
هذا الفريق يحتاج الى مساعدة في إظهار قوته، وفي تعزيز الحافزية عند من يشبهه في بقية البلاد. والمتاح الآن، لتحقيق ذلك، حصراً، إقرار قانون يعتمد النسبية الشاملة. وهنا بيت القصيد.