في 31 تشرين الأول 2016، خرج من يقول إن الفوز برئاسة الجمهورية هو البداية فقط. كانوا مخطئين. الأداء يوحي بأنها النهاية. كأن عبارة «وانتخب عون رئيساً» مرادفة لعبارة «تزوجا وعاشا سعيدين إلى الأبد». فما يحصل يوحي بأن ما من شيء مشرّف يستحق التدوين بعد ذلك. بإمكان المدونين الاستعانة بكتب ميشال سليمان عن إنجازاته. فلا شيء أهم يُسجّل هذه الأيام
كان الطقس جميلاً في ذلك اليوم الخريفي؛ الأوراق الصفراء التي تطايرت فوق المجتمعين قبالة مكتب التيار الوطني الحر في جونية أضافت لمسة عاطفية على الحشد البرتقاليّ الذي لم تكن أقدامه تقوى على حمله بعد نكسة الدورة الأولى. الطريق بين جونية وعمشيت بدت خالية بالاتجاهين، كأنها هي أيضاً تحبس أنفاسها. أما في عمشيت، فكان الشباب يضعون عند مدخل البلدة اللمسات الأخيرة على صورة الرئيس الجديد التي حلت محل الرئيس القديم.
تمر أمامها آلاف الصور. ومضات سريعة، لكن ثقيلة. انتصر أخيراً. انتصرت ثكنة عمشيت. بإمكان الجنود الذين تقاعدوا ويمضون شيخوختهم في قراهم أن يتنهدوا أخيراً رافعين شارة النصر؛ وبإمكان والدتَي الشهيدين أنطوان حداد وكنعان عيد أن تتبسما أخيراً. بإمكان غازي عاد أن يرتاح. كان ميشال سليمان رئيساً وكانت عمشيت مع ميشال عون؛ لا يتعلق الأمر بالرئاسة الأولى، إنما بالرئيس. الفرحة في جبيل لم تكن لها علاقة بالرئيس القوي، إنما بالرئيس الحلم. تجاوز كثيرون هذا الحلم بسرعة وتعلق به آخرون، ولم يكن أحد يعلم إن كان هذا الحلم دقيقاً أم مجرد أوهام؟ ميشال عون يمثل مشروعاً إصلاحياً في البلد أم مجرد لبناني مارونيّ يريد أن يصبح رئيساً للجمهورية؟ ميشال عون المشروع أم ميشال عون الأب والعم والجد؟ ميشال عون الأرثوذكسي أم ميشال عون الوطن؟ الناس في الشوارع كانوا يحتفلون بانتخاب ميشال عون رئيساً، لا ميشال سليمان أو الياس الهراوي.
الناس في الشوارع والمنازل كانوا يحتفلون بانتخاب رئيس يخرجهم من المزرعة، لا رئيس يبني داخل جدران المزرعة جدراناً ويقفل المنافذ والشبابيك. «أرى فيه بعضاً من فؤاد شهاب»، يقول رئيس اتحاد بلديات كسروان جوان حبيش. رئيس معه تسعة وزراء وثلاثون نائباً ومئات البلديات وقيادة الجيش. رئيس أُعطي ضعف ما أعطاه اللبنانيون لكميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده مجتمعين. رئيس لا ترفع الأنخاب في الأديرة إلا بعد الدعاء له بالتوفيق وطول العمر.
وتمر أيام الشتاء بطيئة، تطول الأيام بدل أن تقصر. لا يتغير شيء. لا تبقى الأوضاع على حالها، بل تزداد سوءاً. ما يستصعب بعض العونيين فهمه أن وجود الفساد والفاسدين والمفسدين وتغلغلهم في جميع الأمكنة أمر يعرفه جميع اللبنانيين، لكن هناك بين اللبنانيين من كان ينتظر منهم قلب الطاولة، لا الجلوس عليها مع هؤلاء. المثل الشائع القديم له أثر كبير عند اللبنانيين: قل لي من تعاشر أقل لك من أنت. كل اللبنانيين يرون من يعاشر العونيون. من يتقدم صفوفهم الأولى ويتغدى ويتعشى على موائدهم. ميشال عون هو الرئيس اليوم أم شخص آخر؟ لو كان ميشال عون هو الرئيس لأخرج من خزنته كتابَي «النشرة» و«رؤيتي للبنان» ووضعهما على الطاولة ونادى فؤاد السنيورة أولاً ليطالبه بالاستحصال على براءة ذمة مالية بشأن المليارات الأحد عشر، قبل أن يزوره متأنقاً كشخصية سياسية محترمة. ونادى مجلس الإنماء والإعمار ليطالبه بكشوفات تبين المبالغ الخيالية التي أنفقت على البنية التحتية تمهيداً لإحالة جميع المقاولين ومن يقف خلفهم إلى محكمة خاصة. ونادى القيّمين على صندوق المهجرين ليطالبهم بكشف حساب كامل ينهي المسخرة هنا وفي سائر الصناديق. ونادى أصحاب المرامل والكسارات ليبلغهم وجوب الكف فوراً عن المس بما تبقى من جبال بدل إيجاد الفتاوى الطائفية القذرة لقضم ما تبقى من بلدات ميروبا وفاريا وكفرذبيان. ولا شك أن ميشال عون الذي لم يحسب حساب الربح والخسارة حين قرر الذهاب إلى سوريا قبل بضعة أشهر من الانتخابات النيابية كان سيقول لرجال الأعمال وسط مستشاريه إن السعودية تحتل المرتبة الأخيرة لا الأولى في جدول زياراته بعد كل ما ارتكبته في المنطقة، وهو سيبدأ البحث فوراً مع الإيرانيين في عرضهم لتأمين الكهرباء من دون سمسرات وبواخر وشركات وهمية. لا يمكن التصديق أن ميشال عون كان ينتظر كل هذه السنوات من أجل أن يصبح رئيساً يستقبل ويودع اللجان والشخصيات المملة، ولا يمكن التصديق أن يوماً واحداً يمر لا ستة أشهر من دون أن يفعل شيئاً.
31 تشرين الأول 2016 كان يوماً جميلاً ومؤثراً. لكن القلق الذي يكبر يوماً بعد يوم، سببه الحيرة في من هو الحاكم اليوم، أهي شروط التسوية التي أفضت الى انتخاب عون رئيساً، أم ميشال عون نفسه؟ أما فترة السماح، فهي تعطى عادة لمن لا يعرفه الناس. لكنها تصبح أقصر متى يكون ساكن القصر رجلاً بحجم ميشال عون!