اظهرت نتيجة انتخابات نقابة المهندسين، بغضّ النظر عن الرابح والخاسر وتأثير عملية التشطيب، أن ما يحققه المجتمع المدني منذ انتخابات بلدية بيروت، وصولاً إلى نقابة المهندسين، يشكل علامة فارقة ويترك دلالات كبيرة ومهمة على الساحة السياسية في لبنان.
وما أظهرته النتيجة أيضاً، ابتعاد قيادة «التيار الوطني الحر» عن القراءة الاستراتيجية للأحداث، وتموضعها في مواجهة شريحة واسعة من اللبنانيين تتوق إلى التغيير وإلى دولة القانون والمؤسسات.
إن انحراف التيار عن مبادئ وشعارات لطالما آمن بها، وناضل من أجلها، يأتي كنتيجة طبيعية لتغييب الديمقراطية في التيار والتفرّد بقراراته السياسية، والقضاء على المشاركة في داخله. هذا التموضع الجديد للحزب وضعه إلى جانب الطبقة السياسية التي لطالما ناهضها وحارب فسادها، كذلك أبعده عن شريحة كبيرة من اللبنانيين، تتنوع فيها المشارب والخلفيات، شريحة آمنت يوماً بأن التغيير ممكن من خلال أول حالة حزبية طليعية وفعّالة تشكلت بعد الحرب على أنقاض ميليشيات وأحزاب منتهية الصلاحية.
التيار «الحالة» نجح، في الماضي، في استقطاب فئات كبيرة من المجتمع اللبناني بنحو لم يشهده تاريخ لبنان الحديث. وقد استمد التيار قوته من الناس والتفافهم بمختلف مكوناتهم حوله. فكان نجاح التيار نتيجة لخطابه الوطني، وتمسكه الواضح والحازم بدولة القانون والمؤسسات، وابتعاده عن ذهنية الصفقات والمحاصصة.
ماذا يحصل اليوم؟
ها هي قيادة الحزب تتخلى عن هذه الشريحة وتضع نفسها بمواجهتها. لا بل أوقعت نفسها في فخ منافسة الخصوم التقليديين على الجمهور نفسه، وبالاعتماد على الأساليب نفسها، وعلى الخطاب الطائفي نفسه، والتوجه الزبائني والريعي نفسه في إدارة الشأن العام. ما أفقد التيار قدرته التنافسية التي ميّزته عن غيره من الأحزاب، وأصبح يسابق نفسه على التشبه بالأحزاب والقوى التقليدية العشائرية.
هل تغير التيار، وهل طروحات قيادته تعبّر عن العقل الجمعي للتيار، والأهم، هل هذا ما يؤمن به الرئيس ميشال عون؟
عملياً، لقد تخلينا عن مبدأ المحاسبة والمساءلة، ومنحنا براءة ذمة لمن ناضلنا من أجل تأكيد أن إبراءه مستحيل.
لقد تحول التيار من حزب مثالي الأهداف وثوري التوجه، إلى حزب تقليدي، كأننا نقول لديوك المزارع الطائفية إنه بات لدينا مزرعتنا. وسيكون عندنا ديك مثلكم تماماً. وقلنا لهؤلاء: تعالوا لنتفق، تحافظون على مصالحنا، مقابل أن نحافظ على مصالحكم!
لقد نشأنا في التيار على أسس وطنية، وعلى أفكار عابرة للطوائف وللمناطق. وتطور وعينا السياسي على كلمات المؤسس الجنرال، وهكذا صار للتيار مؤيدوه. لكن قيادة التيار، اليوم، تتنازل عن هويته الأصلية. من أجل ماذا؟ من أجل منافسة الأحزاب التقليدية الطائفية في ملعبها!
نحن من بشّر بالنسبية، كنظام انتخابي يحفظ حقوق الجميع، ونحن منهم، ويوم وقّعنا ورقة التفاهم مع حزب الله، كان لدينا الإصرار على الإشارة إلى هذا القانون. وناضلنا وسعينا بقوة لأجل اعتمادها في لقاءات بكركي، ثم جاء الرئيس عون ليعد الناس بها، في كل خطبه، ثم في خطاب القسم... ثم فجأة، لا نعرف ما الذي يجعل قيادة التيار ترتكب خطيئة إطاحة النسبية، وتقترح مشاريع تفرغها من مضمونها.
مشكلة القوانين الانتخابية المعمول بها منذ 1990 إلى اليوم، إنها تتيح فقط، للحزب الأقوى عند الشيعة والسنة والدروز، بانتخاب نوابهم، ثم الاستيلاء أو استعارة نواب من طوائف أخرى. ومع ذلك، فكل هذا التمثيل لم يأتِ للمواطنين المسلمين بأي حقوق. فلا عدالة تحققت، ولا رفاهية. وبقيت غالبية الشباب من دون عمل، وظل لبنان يتأخر عن بلوغ دولة القانون والمؤسسات، ولا دولة الحريات والحقوق المدنية.
ماذا نفعل اليوم؟ هل نسعى، بعد عقدين من الزمن، إلى احتكار التمثيل المسيحي؟ هل صار طموحنا التماثل بتجربة آل الحريري في زعامة طائفتهم، أو تقليد الثنائي الشيعي في احتكار تمثيل الطائفة الشيعية؟
ما النفع أن نخسر أنفسنا ليربح فرد زعامته؟
نسعى جاهدين لمنع أولادنا من الهجرة، ولكي يعود بعض من هاجر. جميعهم هاجروا سعياً وراء دولة تحفظ حقوقهم، تحترم القانون والمؤسسات، هاجروا من أجل فرص متساوية، هاجروا من أجل فرصة لعيش كريم، ومن أجل أمن وأمان، ومن أجل حريتهم.
نرانا اليوم نضع البلد على حافة حرب أهلية من أجل قانون أردنا تسميته بقانون الحرية، وهو قانون مفصل على قياس أشخاص يطمحون إلى المنافسة باستحقاق قادم بعد سنوات.
نضحي بأنفسنا، وباليوم، وبقسم وعهد لم يبدأ بعد من أجل مصالح شخصية بمستقبل لن يكون.
تغيرنا... نعم تغيرنا.