«كلهم طائفيّون». يمكن قول ذلك لتأمين الرضى عن النفس. «كلهم طائفيون»؟ ربما. لكنّ واحداً من الأحزاب يجب أن يُنتقد أكثر من غيره، لسببين: الأول، أنه قدّم نفسه كمشروع إصلاح وتغيير، والثاني أنه يذهب في التحريض الطائفي إلى حيث لا ينافسه أحد اليوم
ثمة حزب كان يرفع لواء العلمانية ويقول إنه يمثل الانفتاح في مجتمعه، كان سبّاقاً في تنظيم الحملات لمنع بيع (أو تأجير) شقق سكنية في بعض الأحياء الشعبية لغير المسيحيين. الحزب نفسه كان يخرج طبول الحرب لمجرد أن يعتدي أحدهم على لوحة إعلانية لملابس البحر، فيذهب في مقدمة تلفزيونه إلى حدّ التلميح بأن طوائف أخرى تقف خلف الموضوع.
ولا حاجة إلى التذكير بما كان يحصل عند اعتداء أحد المتطرفين على زينة الأعياد المسيحية مثلاً أو صدور أي قرار تأديبي بحق موظف مسيحي، أو إضاءة ما كان يعرف بتلة البلمند في الشمال، بعد بيعها، بكلمتي «الله أكبر». حتى مزاحمة أصحاب الفانات لأصحاب «التاكسيات» في جبيل صارت تأخذ بعداً طائفياً. شجرة التفاح باتت شجرة مارونية. تشريع عمل المرامل في كسروان يدخل ضمن معادلة «6 و6 مكرّر». ظواهر غريبة وفضائح مذهبية لا تعدّ ولا تحصى. ففي وقت كان فيه البلد ينفتح بعضه على بعض، والشباب يسرحون ويمرحون هنا وهناك متعرّفين على مناطق كانوا يجهلونها بالكامل، كان أحد النواب يحمل في جيبه قائمة بمخصصات المستشفيات في الوزارات، ليبيّن الفرق بين مجموع ما تحصل عليه المستشفيات الحكومية في المناطق المسيحية وحصة زميلاتها في المناطق الأخرى. أحد مسؤولي التيار يباغت رعاة الماعز البقاعيين الذين يتقدمون إلى مناقصة في سراي جونية للحصول على حق رعي الماعز في بعض المشاع الكسرواني المهجور. يدفع مئة ألف دولار، لا لشيء سوى للقول لأهالي المنطقة إنه منع رعاة منطقة أخرى من دخول مشاع بلداتهم. سلسلة الرتب والرواتب أخضعت لفحص جينيّ بهدف تقدير طائفة أكثرية المستفيدين منها. قضية المياومين أخضعت للفحص الجيني نفسه. وكان لا بد هنا من أكاذيب شعبوية كثيرة: أزمة الكهرباء، مثلاً، سببها عدم دفع المسلمين للفواتير فيما المسيحيون يدفعون. الفضيحة الأكبر كانت في تبنّي اقتراح «اللقاء الأرثوذكسي» لقانون الانتخاب، علماً بأن الخطاب العوني أخذ يرفض خفض سن الاقتراع إلى 18 عاماً لأن غبياً أقنعهم بأن ذلك يفيد المسلمين ويضرّ بالمسيحيين، ويؤيد اقتراع المغتربين ليس لأنه حق للمغتربين، بل لأن غبياً آخر أقنعهم بأنه أمر يفيد المسيحيين انتخابياً ويضرّ بالمسلمين. مع ذلك، رغم هذا كله، كان الخطاب الأساسي للتيار الوطني الحر يقول إن المشكلة مثلاً مع تيار المستقبل سياسية لا طائفية، تتعلق بالفساد والمحاسبة والتغيير والإصلاح.
لكن ماذا حصل؟ ثمة أمر بالغ الخطورة بدأ عند تشكيل الحكومة وفق مقاربة تقول إن تيار المستقبل يملك المقاعد السنية في مجلس الوزراء، فيما يملك التيار الوطني الحر والقوات المقاعد المسيحية، وحزب الله وحركة أمل المقاعد الشيعية، والحزب التقدمي المقاعد الدرزية. وفي حال أراد الحريري توزير مسيحي، فعليه أن يتنازل في المقابل عن مقعد سنّي. هذا المفهوم للميثاقية والشراكة وغيرهما حاول الوزير جبران باسيل تحويله إلى قانون انتخابي هدفه الأول والأخير تمكين التيار والقوات من اختيار 64 نائباً مسيحياً، فيما يوصل كلّ من تيار المستقبل والحزب التقدمي وحزب الله وحركة أمل النواب المسلمين. لو قالت القوى الأخرى إنها تؤيد «الأرثوذكسي»، لوجد باسيل مخرجاً للقول إنه ضد «الأرثوذكسي». فالأرثوذكسي بصيغته الأولى يؤمن حداً أدنى من التعددية داخل الطوائف. والاستطلاعات التي تُعدّ لحساب العونيين والقوات تبيّن وجود تأييد كبير لتفاهمهما في الأوساط المسيحية، لكن من دون أن تبلغ نسبة التأييد في أي دائرة ستين في المئة، وهذا ما يعرفه باسيل جيداً ويرفضه. لا يريد أيّ متنفس سواء للمجتمع المدني أو للشخصيات المستقلة أو لأي شخص تسوّل له نفسه العمل السياسي خارج حزبي التيار الوطني الحر والقوات. الشراكة والميثاقية كما يريدهما باسيل هما شراكة بينه وبين الحريري وجنبلاط وبري بوصفهم يمثلون الطوائف الأربع في الحكم. يقدم العون اللازم للحريري في قانون الانتخاب، لينهي الأخير ظاهرة ريفي مقابل تقديم الحريري العون لباسيل من أجل الخلاص من زياد بارود وفريد الخازن وزياد حواط ومنصور البون. يساعدونه في محاصرة ميقاتي في مقعد نيابي واحد، ليساعدهم في محاصرة سامي الجميّل في مقعد واحد أيضاً. يقضون له على فيصل كرامي وعبد الرحيم مراد في صيغة قانون الانتخاب، مقابل أن يقضي لهم على سليمان فرنجية وميريام سكاف في الصيغة نفسها.
تغيّرت المقاربة. لم تعد سياسية ولا تتعلق بالتغيير والإصلاح ومحاربة الفساد؛ كل ما كان مطلوباً هو استبدال النواب والوزراء والموظفين المسيحيين الذين لا ينتمون إلى التيار والقوات بنواب ووزراء وموظفين ينتمون إلى التيار والقوات. وتبيّن خلال اليومين الماضيين أن مواجهة باسيل لمن يتصدى لهذا المنطق لن تكون بالاتهامات التقليدية، بل بخطاب تحريضي مذهبي يستحضر كل أوساخ الحرب الأهلية وميليشياتها، وصولاً إلى اتهام المعارضين بأنهم كيهوذا. ومن تابع التسجيلات الصوتية التي دخل نشطاء القوات اللبنانية بقوة على خط تسويقها، لاحظ أن التعبئة تتم بشعار واحد: أعطونا ما نريده أو نفتح أبواب جهنم. السبت الأسود حضر في التسجيلات الصوتية بوصفه محطة بطولية مشرفة. محاصرة العونيين للنواب الذين ذهبوا إلى الطائف ومنعهم من العودة إلى منازلهم في مناطق نفوذ الجيش اللبناني ذُكرا أيضاً في سياق استعراض البطولات، علماً بأن ما فعله أولئك النواب يوافق العونيون عليه اليوم. حملة التيار التعبوية لم تتضمن أي شيء سوى دق طبول الحرب المذهبية والتهديد والوعيد. ومع ذلك، أرسل الوزير باسيل رسالة صوتية يشكر فيها المحازبين على جهدهم الكبير، بدل أن يعتذر عمّا صدر من كلام تحريضي مذهبي. وبدل أن يسعى إلى تحقيق إنجازات حقيقية في المحاسبة والتغيير والإصلاح، يتعلق بطيف بشير الجميّل، ويتبنّى منطق ميليشيا القوات: نحن أو لا أحد. ما تطلّب سلاحاً في السابق ودعماً إسرائيلياً واغتيالات لتحقيقه، يعتقدون أن تحقيقه ممكن اليوم بقانون انتخابات.