أزمة مخيم عين الحلوة أزمة تختصر الوضع الفلسطيني برمّته، والذي فيه من الألم والنفي والعبث ما فيه. لا يعني ذلك أنّ الأمل مفقود وأنّ المستقبل مُعتِم، بل إنّ الحالة الراهنة محبطة جداً، ومخيّبة جداً، واقتراب من «الشجرة الممنوعة»، وهذا ما يشعرنا بالقلق والعواقب الوخيمة. وكأنّ التقاتل الفلسطيني الفلسطيني، واللهاث وراء تسوية مع العدو الصهيوني، يشيران إلى الساعة الأخيرة من عمر القضية الفلسطينية، والتيه في صحراء المجهول. إنّها صدمة ما بعدها صدمة عندما ترى الفلسطينيين يتقاتلون. ليس لأنّه لا تجوز الاختلافات ولا ممنوع أن يكون هناك تباينات في وجهات النظر. فالاختلاف والتباين من طبائع البشر، ولكن لأنّ شعباً ينام ويفتح عينيه ولا يجد غير التآمر الدولي والعربي والإسلامي عليه. معيب بحقه أن ينزف دماً في غير مواجهته للعدو، ويتصارع على تفاهات الأشياء، فيما حقه يضيع وأرضه تتناقص، وتشرّده يتنامى، وتأوّهاته تُدمي العيون. أيّ منطق يمكن أن يفسّر كلّ هذا التدهور السياسي والأخلاقي الذي يجري اليوم وكأنّ الفلسطينيين ارتضوا لأنفسهم الانتحار. سيقول قائل إنّ العرب والمسلمين قد تخلّوا عن الفلسطينيين، ومن الطبيعي أن يحصل ما يحصل من تشرذم ونزاع. ولو سلّمنا جدلاً بصحة هذه الفرضية وهي غير صحيحة بوجود الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسورية، فهما تقدّمان ما يلزم من الحماية السياسية والدعم العسكري والمالي رغم ظروفهما القاسية، ولكن هل يبرّر عدم وجود مساند خارجي الانقسام والتصارع إلى الحدّ الذي يجعل العدو الإسرائيلي فرحاً ومنتشياً بهذه الأعمال المشينة!
ولنقل كلمة حق وبصراحة متناهية. إنّ الهبوط من سموّ المقاومة إلى حضيض التسوية، واستبدال بندقية المقاومة بـ سلام الإذعان ، والتخلي عن سورية وإيران الداعمتين الرئيسيتين للشعب الفلسطيني ومقاومته، بحجج طائفية وتحت ضغط إغراء المال والسياسة من قبل دول الخليج التي لم تكن يوماً إلى جانب تحرير الأرض واستعادة فلسطين كاملة، كان السبب في ما يحلّ بهذا الشعب. لقد غرقت القيادات الفلسطينية بحب السلطة وشهوات المال فتركت العمل الفدائي الذي شكّل أجمل صورة من صور الشرف والمجد والنضال الإنساني ضد الظلم والاحتلال، واستعاضت عنه بجلسات الاحتضان والقبلات والضحكات مع الوفود «الإسرائيلية» التي كانت تعمل بجد لدفع الفلسطينيين للتنازل عن حقوقهم التاريخية. نعم، إنّ التفريط بالمقاومة وتفضيل التحالف مع دول الاستعمار واستعداء الأصدقاء الحقيقيين ذهب بالكثير من الفلسطينيين إلى الفكر الوهابي والجماعات التكفيرية المتشددة ليزداد العمى عمى، والغشاوة غشاوة، فلم يعُد المحتل «الإسرائيلي» هو العدو بل المسلم من طائفة أخرى، ولم تعُد الأولوية تحرير الأرض المغتصبة التي مرّت على اغتصابها عشرات السنين بل صار قتال المسلمين أوجب وأولى من أي مهمة أخرى. كما أخطأ الفلسطينيون في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم عندما جعلوا أولويتهم إسقاط الأنظمة العربية قبل تحرير فلسطين فسقطوا في وحول اقتتال عبثي مدمّر، يفعل بعضهم اليوم الشيء ذاته عندما يعتبر إسقاط سورية ومقاتلة حزب الله ومعاداة إيران أولوية لا تتقدّم عليها أولوية أخرى، فنرى كل هذه الدماء تسيل بعيداً عن فلسطين التي نشعر أنّ ظلمها من قبل أهلها أشدّ مضاضة من ظلم الأبعدين لها.
فما هو مطلوب في أزمة عين الحلوة اليوم، وبعيداً عن التعقيدات الداخلية والترتيبات الأمنية، هو وقف نزيف الدم فوراً. وإعادة بناء الوعي الفلسطيني المصاب بالكيّ والعطب والانحراف، والتفاهم من جديد على أن لا حلّ للأزمات إلا بالوحدة وتوجيه البندقية حصراً إلى صدر العدو «الإسرائيلي». عندها يكون الفلسطينيون قد بدأوا العودة إلى الصراط المستقيم، أما إذا استمرّ الوضع نحو المزيد من التأزّم، فالوصف بالتأكيد سيكون الضالين !