استفتاء على إجراء تعديلات دستورية كان الحدث المنتظر عند الاتراك منذ فترة غير بعيدة، كلف الرئيس رجب طيب أردوغان «اثماناً» معنوية وسياسية «باهظة» تخطّت الجغرافيا التركية ودخلت الأراضي الاوروبية، ربما احتاجها الرجل لشد العصب التركي وهذا ما كان، كتلك الازمة المفتعلة مع هولندا على خلفية رفضها اقامة احتفالات شعبية سياسية «غريبة» على اراضيها يخطب فيها مسؤولون أتراك فهي لا تتقبل بطبيعة الحال، كما ظهر للعلن ما اعتبرته نوعاً من انواع التعدي على سيادتها وعلى شكليات تحيط بمهابة الدولة الجرمانية التي لا ترتضي استعمال أراضيها لأغراض حزبية خارجية او شخصية، كمحاولة افراد من حزب العدالة والتنمية مثل وزير الخارجية جاويش اوغلو ووزيرة الأسرة فاطمة بتول فاي، التركيين، بإصرارهما على لقاء الهولنديين من أصول تركية والأتراك المقيمين لتجديد البيعة لأردوغان من على أراضيها.
نتائج الاستفتاء تقول إن الذين قالوا «نعم» لأردوغان يقاربون الـ 51.3 في المئة، حسب الهيئة المنظمة للانتخابات التي تشرف على نتائج الاستفتاء.
نسبة المشاركة بالتصويت ككل على الاستفتاء، أي مشاركة الاتراك بالاستحقاق قاربت الـ 86.6 بالمئة، أي أنها وصلت الى الذروة بعكس ما روّجت قنوات مؤيدة لأردوغان بينها قنوات عربية كالجزيرة القطرية وذلك تقليلاً من مفاجأة الفوز «الباهت»، بأن «نسبة المشاركة من المؤيدين لأردوغان لم تكن كما يجب لأن كثراً كانوا متأكدين من أن أردوغان سينجح بالاستفتاء «فتراخوا» او عزفوا عن التصويت»، الا ان الواقع قال العكس، ونسبة الاقبال كانت مرتفعة جداً ما يعكس اهتمام الاتراك بمصير دستور البلاد. فعموم تركيا انتخبت حتى الاغتراب لتحصد نسبة مشاركة من الصعب أن تبلغها عملية انتخابية في أي بلد بالعالم.
أربعة خطابات في اسطنبول وحدها لأردوغان قبل الاستفتاء، وخمسة خطابات في اسطنبول ايضاً لرئيس الحكومة علي بن يلدرم للقول للناس «انزلوا الى صناديق الاقتراع وامنحونا «نعم». فجاء فارق فوز أردوغان 1.3 بالمئة فقط… ماذا تقول هذه النتيجة؟
بعد 17 عاماً من حكم أردوغان وسبع سنوات استثمار للحرب على سورية وبعد الانقلاب وكل مسيرته السياسية بالتحالفات والخصومات، والاهم اختبار علاقته بالأكراد، يعتبر هذا الاستفتاء هو استفتاء على «أردوغان» وليس على «الدستور». فالموضوع المطروح بالتداول في تركيا هو من «مع» أردوغان ومَن «ضد» أردوغان والأتراك صوّتوا على هذا الاساس. وإذا كان أردوغان قد «صُوِِّتَ» عليه وفاز فقط بهذه النتيجة مع دعم من حزب الحركة القومية الذي يملك رصيداً من 13 فإن هذا يعني ان لحزب أردوغان نسبة 38 بالمئة فقط عدا عن الحديث عن تزوير واختفاء صناديق، خصوصاً ان أردوغان اليوم في الحكم وحزبه لديه سوابق خرجت عن الأصول، واعترفت الهيئة الناظمة للانتخابات بأن هناك مظاريف مفقودة وأن لا أختام وتواقيع على أكثر من محضر لإقفال الصناديق. وواضح ان هناك «فوضى» حصلت لكن كل هذا يمكن تجاهله للانتقال للأهم وما يعتبر تشريحاً جدياً لواقع أردوغان في «السياسة».
ثلاث «مدن» تركية هي الحواضر السياسية التركية أولاها «اسطنبول» وهي معقل الإسلاميين، ثانيتها انقرة لحزب الحركة القومية المتعصبة، وثالثتها ازمير للحزب الجمهوري المعارض.. فماذا قالت المدن الثلاث؟
يفيد التذكير هنا بأن أردوغان من دون سواه نجح بالانتخابات بإحداث خرق في ازمير وتقاسم مع الحركة القومية انقرة ونجح باحتلال اسطنبول أي اكتساحها بعد أن كان رئيس بلديتها لولايتين ومقرّ عمله السياسي ومهرجاناته الشعبية الضخمة، لذلك فإن نتائج اسطنبول هي الأهم بالنسبة لأردوغان لانها «المعقل». والحديث اليوم في الشارع التركي ووفق النتائج المعلنة ومع كل التجاوزات عن خسارته في المدن الثلاث هو عن «كارثة» توجب على حزب العدالة والتنمية القراءة بهدوء بعيداً عن البروباغندا الإعلامية للخروج بخلاصات أساسية. فمن يخسر اسطنبول وانقرة وازمير هو حزب «يحتضر» وهو يسلك طريق الموت والمتبقي هي الارياف غير الحاضرة بالحياة السياسية والتي شكلت الفارق للفوز، وهي غير معنية بأي حشود وإضرابات يدعو إليها أردوغان في المدن الاساسية الكبرى في أي لحظة طوارئ.
أي تظاهرة تجمع اسطنبول وانقرة وازمير هي تظاهرة لتركيا كلها على صعيد النقابات العمالية والمحامين والأطباء والمهندسين والمصارف. ومن يخسر هذه المدن الثلاث ينتهي مستقبله في تركيا كيف وأن حزب العدالة والتنمية خسر في اسطنبول وهي كل أمل أردوغان ومشروعه السياسي ومشروع الإسلاميين، حيث لم يتمّ حصد خمسين بالمئة من المصوّتين فيها.
يلفت مصدر متابع للاستفتاء التركي وتداعياته بالاسابيع المقبلة لـ»البناء» بأن لا قيمة للتعديل الدستوري الذي أنجز مع التعديلات القائمة الا في نهاية عام 2019، اي ان أردوغان لا يمكنه الاستفادة منها في شيء ما خلا تحضير قوانين تحتاج إلى تعديل على الدستور لإنجازه بشكل نهائي قبل انتخابات 2019 النيابية والرئاسية، حيث يبدأ بالعمل مع الرئيس الجديد والبرلمان الجديد في العام 2020 وعليه اذا كان أردوغان قد خسر هذه المدن الثلاث الكبرى منذ اليوم لحظة الاستفتاء، فكيف بالحال بعد ثلاث سنوات؟
أزمة كارثية تحيط بمستقبل أردوغان مع تحدٍّ كردي مصيري ونيات اعتراضات شاملة على النتائج تطلب الوضع بالحسبان أن مستقبله السياسي بات مهتزاً وأن مكوثه في الحكم قد لا يكون طويلاً بعيداً عن أي بروباغندات.