أسدلت "الستارة" على جولة جديدة من اشتباكات عين الحلوة الدامية، إنطفأ لهيب النار الذي أحرق عشرات المنازل، لكن لهيب قلوب اصحابها لم تنطفىء بعد، بدأت تشتعل غضبا وحزنا، فيما رائحة الدخان و"لون الجدران السوداء" و"البارود" تركوا أثرًا لا يمحى بسهولة. وقف بعضهم على انقاض منزله وردد بحرقة، "هنا كان بيتنا"، والبعض الاخر ذرف الدمع وصرخ بأعلى صوته بأن "شقا العمر" ذهب هباء منثورا، كعادتهم كل مرة يدفع أبناء المخيم ثمن الاقتتال من ارواحهم ومنازلهم وحالهم التجارية.
"حي الطيرة"، بات منكوبا، مئات المنازل فيه، تضررت بالكامل او جزئيا بعضها تهدم والبعض الاخر انهارت منها اجزاء كبيرة، او احترقت، بفعل القذائف والرشقات النارية العنيفة وعلى انواعها، ناهيك عن شبكتي المياه والكهرباء والهاتف. لم يقتصر الامر على المكان المذكور، بل طال الخراب "حي الصحون" المحاذي وجانب من حيي "الصفصاف وراس الاحمر"، ومعهما سوق الخضار ايضا، أنجزت وكالة الاونروا مسحها الميداني في اعقاب الاشتباكات الدامية التي جرت وحصدت سبعة قتلى واكثر من 43 جريحا، وتبين أن هناك 577 من بينهم 57 عائلة غير قادرة على الرجوع و141 محلا متضررا.
رواية الطلقات
أبو علاء حجير ابن الحي وأحد وجهائه، يصف الاشتباكات بانها كانت عنيفة، كأنها انتقلت من منزل الى آخر جنوبا، وصلت الى حمام بيته الذي عثر فيه على العشرات من طلقات كلاشينكوف، قبل ان يضيف "لقد خسر ابناؤه منازلهم في نهاية المطاف، فمن يعوض عليهم؟.
داخل الحي نفسه، تروي الطلقات الملقاة على الارض في الأزقّة وعند مداخل المنازل وما بينهما، تفاصيل ما جرى من خراب، الاحجار تراكمت فوق بعضها، وقضبان الحديد انسلخت عن الاسمنت، ما زالت المياه تتسرب من الخزانات التي لم تسلم ايضا، ويافطة حملة بلدي عنواني راجعينلك يا "الطيره" سقطت من عليائها، صمدت خارطة فلسطين، كأنها تنزف من قتل "الأخوة الاعداء"، بينما تدلت اسلاك الكهرباء وشبكات "الاشتراكات والنت والستالايت" لتجعل من المرور صعبا".
منى حبيبتي
وسط منزلها المحروقة، جلست "أم سامر"، على الركام تندب حظها، لم يبق شيئًا فيه، تحول الى "اثر بعد عين"، تكفكف دمعها، تقول بحسرة "ان اطفالي يبكون على اغراضهم لقد احترقت العابهم وباتوا مشردين من منزل الى اخر"، قبل ان تضيف "حسبي الله ونعم الوكيل على كل انسان، ضرب واطلق النار على هذا الحي ودمر الفقراء وما يملكون".
على اطلال منزل، كتبت عبارة "حبيبتي منى" بالخط العريض، خلافا لعادة الحروب، كان المقاتلون يكتبون "... مر من هنا"، اراد صاحب المنزل ان يوجه رسالة لمن سيتفقد ما تبقى من منزله المتداعي بالكامل، بان "الحب باق رغم الكره والاقتتال والدمار".
شارة نصر
مشهد الشارع الفوقاني نفسه، من سوق الخضار حتى رأس الاحمر، بدا كمشهد من أحياء اليرموك في سوريا، نتيجة الاضرار التي لحقت بالمحال والمنازل على جانبيه، يجلس ابو خليل الكزماوي على كرسيه أمام محله الذي تضرر، والى جانبه وضع عكازيه على مدخله، ينتظر الفرج ليؤكد ان "ما جرى اشبه بحرب عالمية ولكنها عبثية، ادت الى دمار شامل".
والكزماوي، الذي اشتهر بتعليقاته الغاضبة وبـ "فيديوهاته" الساخرة التي لا توفر احدا من المسؤولين او المتقاتلين، كرر قناعته، مطالبا باعلان الحي منطقة منكوبة، والمسؤولين والمؤسسات بالتعويض على المتضررين سريعا، قائلا "لقد صرفوا على الاشتباكات نحو مليوني دولار اميركي، ثمن القذائف والرصاص والصواريخ، واذا لم يعوضوا، فان الشعب سينتقم منكم"، مؤكدا "ان الغضب هذه المرة لن يتوقف والشعب سيحاسبكم حسابا عسيرا".
ساخرا على طريقته هذه المرة، يرفع كزماوي "شارة النصر" بالمقلوب، ويردد بصوت عال "بدلا من الانتصار أصابنا الانكسار، ولكننا لن نيأس ونستسلم، المخيم لنا وسنحافظ عليه حتى العودة".
نار بلا ذنب
في سوق الخضار، وقف احمد برهوم، يتحسر على محله المستأجر والمعد لبيع الثياب والاحذية، تحول الى رماد بعد احتراقه بالكامل، مع ثلاثة محال اخرى مجاورة لاشقائه واقاربه، قال "ان خسارتي لا تعوض وتفوق 150 الف دولار، لقد انطفأت النار لوحدها بعدما التهمت كل شيء، ومعها اشتعل قلبي بنار الغضب، ما ذنبنا ومن سيعوض علينا؟.
حرقة برهوم ليست الاولى، اذ سبق وان احترق محله المستأجر في "حي الصفصاف" في اشتباكات سابقة، قال هربت من هناك خشية ان يتكرر معي الامر، فحصدت شر الاقتتال نارا بلا ذنب، عدت الى المربع الاول، وانتظر التعويض بفارغ الصبر كي اعود وأبني نفسي".
بيع الورد
لم تطمئن الناس بعد لاستقرار الامن، في قرارة انفسهم وعلنا يعبرون عن هواجسهم من جولة جديدة قد تبدأ في اي وقت ولاي سبب، النفوس ما زالت مشحونة، واليد على الزناد، يؤكدون "خسرنا وبقي الوضع على حاله من "الامن الهش" القابل للتوتير والتفجير عند اي حادث، حملت الاشتباكات الاخيرة الانتقام والثأر وحتى السرقة، ولا يبشر المستقبل بالخير.
وحده الفتى محمد حمدان 16 عاما، من عرب شويشة، يطرد شبح الموت بالابتسامة، يزرع الامل ويبيع الورد، على عربة متحركة صغيرة في آخر سوق الخضار لجهة الشارع التحتاني، يعتاش منها منذ نحو عام، عربته تجمع المتناقضات من الاشكال والالوان، ولكنها متناسقة تتعايش مع بعضها البعض وبسلام... يقول "ما اجمل ان يكون حالنا في عين الحلوة مثلها، نتلاقى رغم الاختلاف، نعتمد لغة الحوار بعيدا عن الاقتتال، يفوح حضورنا رائحة جميلة، الوحدة هي الخلاص".