أصابت تقديرات مراكز الإستطلاع في فرنسا، ونجح في الدورة الأولى من الإنتخابات الفرنسيّة كلّ من المُرشّح الوسطي المُستقلّ إيمانويل ماكرون (39 عامًا)، ومُرشّحة اليمين المُتطرّف مارين لوبان (48 عامًا) في الوصول إلى الدورة الثانية من الإنتخابات والتي ستُحدّد إسم الرئيس الفرنسي المُقبل. فماذا تعني هذه النتيجة، ومن سيفوز في الدورة المقبلة، وما هي الإرتدادات المُتوقّعة على أوروبا والعالم وقضايا الشرق الأوسط؟.
بالنسبة إلى النتيجة التي تمخّضت عن دورة الإقتراع الأولى فهي عكست تحوّلاً جذريًا في المشهد السياسي الفرنسي، حيث أنّ مُمثّلي الأحزاب الفرنسيّة التقليديّة، وفي طليعتها مرشّحي حزبي اليمين المُحافظ والإشتراكيّين، فشلوا في التأهّل إلى دورة الإقتراع الثانية، لصالح بروز شعبيّة ماكرون الذي أسّس حزبه منذ سنة واحدة فقط، ولوبان التي تُمثّل تيّارًا متطرّفًا لم يكن مقبولاً من شرائح واسعة من الفرنسيّين بالأمس القريب. ولا شكّ أنّ من بين الأسباب المُباشرة لهذا التحوّل في رأي الناخبين، الإتجاه المُتزايد في فرنسا-وكذلك في أوروبا والعالم الغربي، نحو التعصّب العرقي ونحو التقوقع القومي بالتزامن مع نبذ الغرباء والدخلاء على المُجتمع، والخوف من دخول الإرهابيّين إلى فرنسا ومن محاولة تطبيق الأفكار الدينيّة المُنغلقة داخل المُجتمع الفرنسي. وهذه الفئة من الناخبين هي التي سمحت لشخصيّة مُتشدّدة مثل لوبان بنيل أكثر من خمس أصوات إجمالي الناخبين. كما أنّ النقمة على الأحزاب التقليديّة وفشلها في مُعالجة العديد من المشاكل الإقتصاديّة والإجتماعية والسياسيّة دفع ربع إجمالي الناخبين إلى التصويت لصالح شخصيّة سياسيّة ناشئة مثل ماكرون على أمل إحداث التغيير المطلوب.
وبعد أن إنحصرت المنافسة الرئاسيّة بين ماكرون ولوبان، أظهرت إستطلاعات جديدة للرأي أنّ الأوّل سيفوز على الثانية، لأنّ السياسة الوسطيّة التي ينتهجها ماكرون ستجذب ناخبين من اليمين ومن اليسار الفرنسي في آن واحد، ولأنّ التطرّف المُبالغ فيه للوبان سيدفع الكثير من الأشخاص المتخوّفين من سياستها الإنغلاقيّة إلى التصويت لصالح ماكرون بصفته الخيار الأفضل، أو حتى الأقلّ سوءًا بالنسبة للبعض. وبالتالي، من المُستبعد جدًا أن تتكرّر في فرنسا، مُفاجأة وصول دونالد ترامب إلى منصب الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركيّة، ومفاجأة خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، حيث أنّ أمل لوبان بالوصول إلى منصب الرئاسة ضعيف. والقضيّة ليست مُرتبطة بعملية إرهابية هنا أو هناك خلال الفترة الفاصلة عن موعد الدورة الثانية، حيث أنّ المجموعات الرافضة لأفكار ولسياسات لوبان، مُتعدّدة وقادرة من خلال تكتل أصواتها على إسقاط مُرشّحة اليمين المتطرّف.
وبالنسبة إلى الإرتدادات المُرتقبة في حال سارت الأمور نحو فوز ماكرون بمنصب الرئاسة-كما هو مُتوقّع، فإنّ لا تغييرات جذريّة أو حتى كبيرة في السياسة الفرنسيّة، لا سيّما على مُستوى السياسة الدَوليّة، حيث يتوقّع الكثير من المُحلّلين أن تُشكّل سياسة ماكرون في هذا الميدان إمتدادًا لسياسة الرئيس الحالي المُنتهية ولايته فرانسوا هولاند، مع فوارق تفصيليّة وتطبيقيّة غير مُهمّة. وقد إنعكس إطمئنان المُستثمرين إرتفاعًا لقيمة اليورو، بعد أن كان بعض هؤلاء يخشى وُصول لوبان بمواجهة مُرشّح آخر مؤيّد أيضًا للخروج من الإتحاد الأوروبي. لكنّ التحدّي الأبرز الذي سيُواجه ماكرون في حال إنتخابه رئيسًا يتمثّل في صعوبة حُصوله على دعم نيابي كاف لإستقرار حكمه والحكومة التي ينوي تشكيلها، ما يرفع من توقّعات تشكيل إئتلاف سياسي واسع يجمع بين العديد من القوى، لتأمين أغلبيّة مُريحة قادرة على إدارة البلاد. وبالنسبة إلى الإرتدادات المُتوقّعة على أوروبا سيُحاول ماكرون إستعادة الدور المحوري الذي كانت تلعبه فرنسا ضمن الإتحاد الأوروبي في ظلّ تنامي القوى والأحزاب اليمينيّة المُتشدّدة. وفي ما خصّ الموقف الفرنسيّ من القضايا العالمية الحامية، يتميّز ماكرون بدعواته المُتكرّرة إلى أن تلعب فرنسا سياسة متوازنة وغير مُنحازة. وبالنسبة إلى الحرب في سوريا مثلاً، يرفض ماكرون أن يكون مُنحازًا إلى جهة دون أخرى، حيث أنّه يعتمد سياسة رماديّة-إذا جاز التعبير، تحفظ لفرنسا موقعًا وسطيًا يسمح لها بالتعامل بتوازن مع مختلف القوى. وبحسب المحلّلين الغربيّين، فإنّ ماكرون سيتجنّب الدخول طرفًا في صراعات الشرق الأوسط كافة، حيث يُتوقّع أن يلعب دورًا وسطيًا وحياديًا، أقرب إلى سياسة ألمانيا مثلاً منه إلى سياسة فرنسا المعهودة. إشارة إلى أنّ ماكرون كان وعد في برنامجه الإنتخابي بأن يُعطي الأولويّة في حال فوزه للقضايا الفرنسيّة الداخليّة، من التعليم والثقافة مرورًا بفرص العمل والإقتصاد وُصولاً إلى الأمن ومكافحة الإرهاب وكذلك تجديد العمل الديمقراطي، واضعًا الوضعين الأوروبي والعالمي في آخر سلّم الإهتمامات.
في الختام، لا شكّ أنّ المُرشّح الفرنسي فرانسوا فيوّن دفع غاليًا ثمن الفضائح التي أثيرت بوجهه، الأمر الذي أدّى إلى تراجعه للمركز الثالث في النتائج النهائية للدورة الأولى من عمليّات الإقتراع مع مجموع بلغ 20,01 % لتتقدّم عليه لوبان (مع مجموع 21,30%) وتتأهّل إلى الدورة الثانية، مُثيرة جرس إنذار على المُستوى الفرنسي الداخلي، وعلى المُستوى الأوروبي العام، بأنّ الأسس والقيم التي قامت عليها فرنسا مُهدّدة بالسقوط برمّتها. والتوقّعات كبيرة بأن يتمكّن ماكرون الذي حلّ في المرتبة الأولى في دورة الإقتراع الأولى مع نسبة تأييد بلغت 24,01 % من إجمالي أصوات الناخبين، من الوُصول إلى "قصر الإليزيه" بصفة رئيس، لتكون أولى مهامه مُحاولة إعادة توحيد المُجتمع الفرنسي حول مجموعة من القيم المُشتركة، في ظلّ الإنقسام الداخلي المُتزايد، وفي ظلّ تنامي الكثير من الأفكار المُتناقضة كليًا بين الأحزاب والقوى الفرنسيّة المنوّعة.