عندما تكون الـحاجات الأساسية للـمواطن غير مؤمّنة، وأبرزها الأمن والصحة والسكن والتعليم والعمل والشيخوخة والكهرباء والـماء والطرقات والبيئة.. وعندما لا يكون سيف العدل مصلتاً على رقاب الفاسدين والـمفسدين الذين نـهبوا الثروات والـخيـرات.. وعندما يكون هناك سلاح غيـر شرعي "يسرح ويـمرح" فـي أيدي فئة من الشعب وبعض اللاجئيـن والنازحيـن على أرض الوطن.. وعندما يُطبَّق القانون على أناس دون أناس، وتكون هناك فئة فوق القانون والـمؤسسات.. وعندما لا يتـمّ التعييـن فـي مراكز ووظائف الدولة إلاّ بالوساطات وبفرْضٍ من رؤساء الأحزاب الـمذهبية والطائفية.. وعندما تتـحوّل كل وزارة ملعباً وحصناً لطائفة معيّنة وتأتـمر بزعيم تلك الطائفة.. وعندما تبقى الدولة إثنتـي عشرة سنة من دون موازنة ويصبح الدين العام يتعدّى الـ 140 فـي الـمئة من الناتـج القومـي.. وعندما لا يكون هناك تفسيـر واحد لـمواد الدستور، وكل فريق يفسّره على هواه وفقاً لـمصالـحه وحـجم قوته.. وعندما لا يتـمّ تداول السلطات بـمواعيدها بسلاسة ورقـيّ إلاّ بعد فراغ أو تـمديد وانـهيار مالـي واقتصادي... تكون الدولة فاشلة والنظام فاشلاً وأهل السلطة فاسدون وفاشلون.
قد تقبل أو ترضخ لبعض الـمشكلات التـي يعانـي منها الوطن منذ زمن بعيد، وتتعوّد على التأقلـم معها بـحزن وألـم، ولكن، عندما يصبح كل إستحقاق دستوري نذير شؤم و"مشروع فتنة" طائفية وقبلية، وكل فريق يستدعي "إحتياطه" وأزلامه للنـزول إلى الشارع، والإستقواء تارةً بأرجلهم وطوراً بقمصانـهم وفـي بعض الأحيان بسلاحهم.. فـهذا يعنـي ان "البلد مِش راكِب"، وهناك أزمة كيان ووجود ومستقبل، فالثوب الـمهتـرئ لا تُصلحه كل خيوط الأرض.
جاء "الطائف" وأوقف الـحرب، ولكنه أبقى الـجمر تـحت الرماد مشتعلاً، وبقيت كل أسباب الـحرب قائـمة، وللأسف الشديد، لـم يعمل سياسيونا طوال ربع قرن على إطفاء الـجمر ومعالـجة الأسباب واجتـراح الـحلول. وما الأحداث التـي توالت على الوطن والأضرار التـي خلّفتها، منذ "الطائف" وحتـى اليوم، إلاّ خيـر دليل على فشل النظام الـجديد فـي إرساء الأمان والإستقرار وتأميـن أبسط الأمور الـحياتية والـمعيشية : رئيس جـمهورية ورئيس حكومة يُغتالان. مفكّرون وسياسيون مناهضون للوصاية السوريّة يُغتالون. رئيسان للـجمهورية يـُمدِّد لـهما مـجلس النواب ثلاث سنوات لكلّ منهما خلافاً للدستور. قائدان للـجيش يصلان إلى سدّة الرئاسة بعد أن يعدّل مـجلس النواب الدستور. يقاطع الـمسيحيون الإنتخابات النيابية دورتيـن متتاليـتـيـن، فتـجري الإنتخابات بـمن حضر. يغادر الرئيس إميل لـحود القصر الـجمهوري، ولـم يكن مـجلس النواب قد إجتمع من أجل إنتخاب خلف له، وامتدّ الفراغ فـي سدّة الرئاسة ستة أشهر. تُصدِر الـحكومة قرارين، فتشتعل الـحرب. تتـراجع الـحكومة وتلغي القرارين. جاء "إتفاق الدوحة" ليُنهي 18 شهراً من الأزمة السياسية فـي لبنان، وليـزيل إعتصام الـمعارضة من وسط بيـروت، والإتفاق على إنتخاب قائد الـجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. تـجري الإنتخابات النيابية بـحسب قانون 1960، 28 نائباً مسيحياً فقط يصلون إلى مـجلس النواب بأصوات الـمسيحييـن. يُـضرَب "إتفاق الدوحة" وتسقط حكومة "الوحدة الوطنية" الــتـي شكّلها الرئيس سعد الـحريري بضربة دستورية قاضية وجّهتها قوى 8 آذار. يُكلَّف الرئيس نـجيب ميقاتـي تأليف الـحكومة، فيؤلّفها بعد خـمسة أشهر من الـمخاض العسيـر، ثـمّ يستقيل بعد أقلّ من سنتيـن. يُكلَّف الرئيس تـمام سلام، فلا تُبصر حكومته النور إلاّ بعد عشرة أشهر من الــمماحكات والشروط والشروط الـمضادة. مـجلس النواب يـمدّد لنفسه
سنة وخـمسة أشهر والأسباب الـموجبة لـم تقنع أحداً. شغور فـي رئاسة الـجمهورية بعد فشل النواب فـي إنتخاب رئيس جديد خلفاً للرئيس ميشال سليمان. تـمديد ثانٍ لـمجلس النواب سنتيـن وسبعة أشهر من دون أيّ عذر شرعي. الأوضاع الـمالية والإقتصادية تتدهور وإفلاسات تطاول شركات ومؤسسات كبـرى. إنتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية بعد فراغ إمتدّ سنتيـن ونصف السنة. الرئيس سعد الـحريري يُشكّل حكومة مِن أولـى مهمّاتـها إجراء الإنتخابات النيابية وفق قانون جديد للإنتخاب. تـمضي فتـرة الـتمديد الثانية لـمجلس النواب ولا إنتخابات، والـخلاف لـم يزل قائـماً على القانون الـجديد ....
هذه بعض مآثر النظام الـجديد الذي أرساه "الطائف" والذي يدافع عنه البعض ويتشبّث به، إغتيالات، سلاح متفلّت، مربّعات أمنية وعشائرية، إستـحقاقات دستورية فـي مهبّ الريح، فراغ، تـمديد، إنـهيار إقتصادي ومالـي، فساد يستشري ويتعاظم، وعودة إلى شبح الفتـن والـحروب... فإلـى أين نـحن ذاهبون وأيّ مصيـر ينتظرنا ?
سؤال نطرحه على السادة قادة هذا الزمن الرديء الذين برعوا فـي إيقاظ "الوحش الطائفي" وفـي خلْق مناخات متوترة فـي الفعل وردّ الفعل، وأوصلوا البلاد إلى شفيـر الـحرب من جديد. ألـم يقرأوا ما قاله جون كنيدي ? "هؤلاء الذين يقومون بثورات سلمية، لا يستطيعون بعد ذلك أن يـمنعوا قيام ثورات دموية". عندما تقع الـمصيبة، البيلاطسيون يغسلون أيديـهم، فيفسدون "العجينة الـحضارية" ويفسدون معها خبـز الـحياة.