لا شك في أنّ تمديد المجلس النيابي لنفسه وعدم توافق النواب على قانون انتخاب وعدم إجراء انتخابات يفقد الدولة مشروعيتها. إذ إن «إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم، ويجب أن تتجلّى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجري دورياً بالاقتراع العام» (المادة 21، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان).
لكن إضافةً إلى هذا الخلل في السلطة التشريعية، يبدو أن بعض القيّمين على السلطتين الإجرائية والقضائية يمعنون في إحداث المزيد من الأضرار في مشروعية الدولة في لبنان. في الآتي نموذجان:
خاطب مفتي بعلبك ــــ الهرمل السابق الشيخ بكر الرفاعي وزارة الداخلية والبلديات مطلع هذا الأسبوع، مطالباً «أن يكون لوزارة الداخلية دور في عودة أهالي بلدة الطفيل كما كان لها دور في موضوع الخطة الإغاثية الأولى والثانية».
تدلّ هذه المطالبة على أمرين: أولاً، إنّ بين أبناء البقاع تعطّشاً لرعاية مؤسسات الدولة الفاعلة التي يفترض أن تقدم لأبناء الطفيل الخدمات نفسها التي تقدمها لأي مواطن لبناني، فهم ليسوا مواطنين من الدرجة الثانية.
ثانياً، لا يزال أبناء القرى الحدودية يطالبون بالدولة، على الرغم من تقصيرها في تأدية واجباتها بحمايتهم من العدوان الخارجي.
ألم يكن من الأفضل أن تعترف وزارة الداخلية بالعجز عن «تطبيق» مسؤولياتها؟
لكن، بدل أن ترحب وزارة الداخلية والبلديات بمطالبة المفتي الرفاعي بمؤسسات الدولة، صدر عنها بيان تضمن «تفهماً لحجم معاناة الأهالي منذ خروجهم من بلدتهم»، وأرفق برسالة سياسية موجهة إلى حزب الله وإلى الشيخ محمد يزبك. إذ ورد في البيان أن الوزارة «لا تُكلَّف بتصريحات عبر المنابر ولا بكلمة من سماحة الشيخ محمد يزبك أو من أي حزب أو طرف آخر، وهي تعرف مسؤولياتها الوطنية وكيفية تطبيقها».
المشكلة الأساسية في البيان ليست الهجوم على حزب الله في حد ذاته، بل في أسلوب تعامل الوزارة مع فئة من اللبنانيين المقيمين في القرى الحدودية لم تتمكن الدولة من حمايتهم، فبادر حزب لبناني إلى نصرتهم، وتمكن من خلال تضحيات جمّة من تأمين عودتهم الآمنة إلى ديارهم.
لا حاجة لاستفتاء اللبنانيين حول ما إذا كانت وزارة الداخلية والبلديات اليوم «تعرف مسؤولياتها الوطنية وكيفية تطبيقها». فالجواب معروف لدى كافة فئات شعبنا. ولا داعي للتذكير بأنّ وزارة الداخلية والبلديات تتشارك مسؤولية معالجة أزمات أخرى، ومنها أزمات النفايات والسير والكسارات.
إنّ «معرفة» القيّمين على الوزارة لـ«كيفية تطبيق» مسؤولياتها تبدو ضئيلة، حتى لا نقول منعدمة بالكامل. فهل تعرف الوزارة كيفية تطبيق مسؤولياتها في حماية لبنان من الإرهابيين ومن العدو الإسرائيلي مثلاً؟ وهل وضعت استراتيجية عملية متكاملة في هذا الإطار؟
ألم يكن من الأفضل أن تعترف وزارة الداخلية بالعجز عن «تطبيق» مسؤولياتها وتسعى إلى التقرب من المواطنين؟ وهل يعتقد وزير الداخلية أنّ من خلال هجومه على شيخ يتمتع بشعبية واسعة بين أبناء البقاع يقدم وحزبه خدمات جلية إلى جميع أبناء المنطقة، يمكن أن يعيد مشروعية الدولة؟
المشروعية تأتي من خلال الخدمات التي تقدمها السلطة إلى رعاياها. ولا يمكن تثبيت العقد الاجتماعي بين الناس والسلطة إلا من خلال المشروعية. فهل الخدمات التي تقدمها وزارة الداخلية والبلديات إلى أبناء البقاع كافية لاستعادة مشروعيتها؟ بغض النظر عن الجواب، يصرّ أبناء البقاع، ومن ضمنهم مناصرو حزب الله، على وجود الدولة وعلى مرجعية مؤسساتها، وهو ما يعبّر عنه الشيخ يزبك وغيره من المسؤولين في حزب الله في خلال لقاءاتهم الحاشدة في بلدات البقاع، فهل يستحقون أن تخاطبهم وزارة الداخلية بهذه الطريقة؟
لم يقتصر الإمعان في إهلاك ما بقي من مشروعية مؤسسات الدولة على بيان وزارة الداخلية في خلال الأسبوع الفائت، بل شمل كذلك قراراً قضائياً أصدرته قاضية أصرّت من خلاله على سجن السيدة المسنّة خديجة أسعد (78 عاماً)، رغم معرفتها بأنها مصابة بمرض عضال (سرطان الدم)، وتتلقى علاجاً كيميائياً. سُجنت المسنّة ستة أيام، بداية في مخفر بلدة الدوير (قضاء النبطية)، ثم نقلت إلى سجن النساء في بعبدا. وأحدث ذلك انقطاعاً في العلاج والرعاية التي ينصّ القانون الدولي على وجوب ضمان توفيرها. فجاء في قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (قواعد نيلسون مانديلا): «ينبغي أن تنظم الخدمات الصحية (...) بطريقة تضمن استمرارية العلاج والرعاية، بما في ذلك في ما يخص فيروس نقص المناعة البشرية» (القاعدة 24/ 2).
الرسالة التي وصلت إلى بعض الناس من خلال ذلك القرار القضائي لا علاقة لها بتطبيق القانون أو عدمه. بل هي رسالة مفادها أنّ تعاملها مع الناس يجافي العدل والإنصاف. وبذلك أسهم القرار القضائي بضرب مشروعية الدولة أمام الناس. وكما في الحالة السابقة، المشكلة الأساسية لا تتعلق فقط بشخص محدد، بل تكمن في تعامل السلطة مع رعاياها وكأنهم ليسوا «مصدر السلطات».