كما كان متوقعاً فاز مرشح الرئاسة ايمانويل ماكرون، رئيس حزب إلى الأمام، في الانتخابات الفرنسية، وحصد نسبة تتجاوز الـ 66 بالمائة من الأصوات معظمها لم تأت من قاعدته الحزبية الحديثة الولادة، وإنما جاءت بفعل العديد من العوامل أبرزها، تجيير أصوات اليمين واليمن الوسط والاشتراكيين له، والدعم الذي حظي به من المصارف والرأسمالية الربيعية ومؤيدي الاتحاد الأوروبي، واللوبي الصهيوني، الذي كان الأشد حماساً في دعم ماكرون الذي يوصف بأنه الأكثر صهيونية في فرنسا لناحية دعمه لإسرائيل في كل سياساتها، إن كان لناحية دعم موقفها بإجراء مفاوضات مع السلطة الفلسطينية من دون شروط مسبقة، أو دعم أمن الكيان الإسرائيلي على حساب أمن العرب والفلسطينيين.

ويبدو من الواضح أن ماكرون فاز بأصوات هذه القوى المختلفة الأمر الذي سيجعله أسيراً لها في سياساته الداخلية والخارجية على السواء، مما يجعل منه رئيساً ضعيفاً وموضع تجاذب كل هذه القوى، في ما يتوقع أن يكون القسم الكبير من الفرنسيين الذين قاطعوا الانتخابات أو صوتوا بورقة بيضاء، وقدرت أصواتهم بـ 16 مليون صوت، أن يكون لهم أيضا تأثير كبير في رسم المشهد السياسي المقبل في فرنسا، من خلال استحقاق الانتخابات التشريعية التي ستجري في شهر يونيو المقبل، حيث من المتوقع حسب المراقبين أن تتوزع مقاعد البرلمان بين حزب ماكرون الجديد الذي جرى إنشاؤه قبل الانتخابات من قبل القوى الرأسمالية النافدة واللوبي الصهيوني، وبين اليمن واليمن الوسط، والاشتراكيين الذين تراجع حضورهم بشكل كبير، واليمن المتطرف رئاسة لوبان، واليسار بمنوعاته المختلفة، ما يجعل المشهد السياسي الفرنسي أمام حالة من الانقسام والتشرذم، وهذا المشهد يفرض على الرئيس ماكرون تشكيل حكومة ائتلافية لعدم قدرته على الحصول على أغلبية برلمانية كافية تمكنه من تنفيذ برنامجه السياسي والاقتصادي الاجتماعي.

على أن من يقرأ في مواقف ماكرون يلحظ بأنه سيكون حارساً أميناً لمصالح الرأسمالية المتوحشة، ومعادياً شرساً للطبقة العاملة الفرنسية، خصوصا وأن سياسته المنحازة إلى جانب الرأسماليين والمصارف بعيدة كل البعد عن منحى العدالة الاجتماعية، فهو سوف يكون مناصراً لمطالب الرأسماليين والمصارف الساعين إلى النيل من المكتسبات الاجتماعية لعموم الفرنسيين، عبر إدخال المزيد من التعديلات على قانون العمل لمصلحة أرباب العمل.

أما في سياساته الخارجية فإن ماكرون يميل بقوة إلى دعم السياسات الأطلسية المتمسكة بالاتحاد الأوروبي والعولمة، وكذلك الوقوف إلى جانب «إسرائيل» ما يجعله معاديا للحقوق العربية، الأمر الذي يعني أن فرنسا ستكون أكثر عداء من أي مرحلة سابقة للعرب وحقوقهم، ومتراصفة إلى جانب العدوانية الصهيونية.

غير أنه من المتوقع في ضوء الانتخابات التشريعية ونتائجها، التي تؤشر استطلاعات الرأي إلى أنها لن تعطي الغالبية لحزب ماكرون، ألا يتمكن الأخير من تشكيل حكومة موالية له وتنفذ برنامجه، بل قد يكون مجبراً على تشكيل حكومة ائتلافية من الأحزاب المختلفة تكون سياساتها حصيلة التوازنات التي تحكمها، الأمر الذي يجعل ماكرون مضطراً إلى دوزنة مواقفه على نحو تكون حصيلة هذه التوازنات.

هذا الواقع الذي سيواجه الرئيس الفرنسي الجديد إنما ينبع من كونه يواجه جملة مشكلات أبرزها:

أولاً: إن ماكرون رئيس حركة إلى الأمام وهي حركة حديثة العهد جرى تشكيلها على عجل عشية بدأ الحملة الانتخابية لتكون الإطار الذي يكتسي من خلاله شعبية وتأييداً بدعم قوي من اللوبيات المالية والصهيونية والأطلسية، ولهذا فإن حركته ليس لها جذور قوية في المجتمع الفرنسي.

ثانياً: يواجه ماكرون واقعا اقتصاديا واجتماعيا متأزما واحتداما في حدة الصراع الطبقي بين الطبقة العاملة والفئات الوسطى من ناحية، وأرباب العمل والشركات الرأسمالية الريعية النافذة في السلطة من ناحية ثانية، وهذه الأزمة كانت وراء تراجع شعبية اليمين، وتمزق الحزب الاشتراكي وانفضاض قسم كبير من قواعده من حوله نتيجة انحياز الحكومة الاشتراكية إلى جانب دعم مصالح الرأسمالية الريعية والتخلي عن الدفاع عن مطالب الطبقات العمالية والوسطى ومكتسباتهم الاجتماعية، المكرسة منذ عشرات السنين. وقد كشف استطلاع للرأي أجرته مؤسسة IPSOS أن نسبة من صوتوا على أساس دعم برنامج ماكرون السياسي والاقتصادي الاجتماعي لا يتعدون الـ 16 في المائة، في حين أن 43 في المائة ممن صوتوا له إنما أقدموا على ذلك بدافع الحيلولة دون وصول ماري لوبان إلى الإليزيه، ومن الطبيعي أن هؤلاء في الانتخابات التشريعية لن يكونوا مضطرين إلى انتخاب مرشحي حزب ماكرون، لأنه سيكون لديهم الخيار للتصويت لمرشحين يتبنون مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية على وجه التحديد.

ثالثا: أما المشكلة الثالثة التي ستواجه ماكرون فهي تنبع من كونه سيكون واقعا بين أحزاب اليمين والاشتراكيين من ناحية، وبين لوبيات المال والصهيونية من ناحية ثانية، وبين معارضة شعبية عمالية قوية في الشارع لسياساته النيو ليبرالية من ناحية ثالثة.

هذه المشكلات كافية ليكون ماكرون أمام بداية رئاسية حافلة بالمتاعب والأزمات والمشاكل وتجعل منه رئيسا مكبلاً وضعيفا غير قادر على الحكم، خصوصا وأنه لن يتمتع بصلاحيات كون الحكومة التي ستشكل عبارة عن ائتلاف من عدة أحزاب، وهذه الحكومة سوف تكون في مواجهة أزمة اقتصادية واجتماعية، لا تملك رؤية موحدة لمعالجتها.

وهذا يعني أن ماكرون سيكون أقرب لأن يصبح رئيسا فخريا منه إلى رئيس فعلي يستطيع أن ينفذ برنامجه أو صوغ سياسات الحكومة التي ستكون محكومة بالتركيبة السياسية التي تتكون منها، والتي تعكس توازنات البرلمان.