من ينسى عمر بكري فستق أو بلال دقماق؟ ومن لا يعرف داعي الإسلام الشهال أو سالم الرافعي أو آخرين من سلفيي طرابلس، سواء كان حافظاً لأسمائهم أو ألِف وجوههم من كثرة ظهورهم في البرامج الحوارية. هؤلاء احتلّوا شاشات التلفزة لسنوات قبل أن يغيبوا. السؤال الأبرز: أين هؤلاء الذين ارتضوا أن يكونوا وقود المعركة؟
لماذا انكفأوا عن الساحة؟ وما هو دور تيار المستقبل؟
لم تعد طرابلس على الخارطة الإعلامية. «قلعة المسلمين»، تلك التي استحالت لبرهةٍ من الزمن عاصمةً للسلفيين، خَفَتَ وهجها بغياب سلفييها عن شاشات التلفزة، بعدما احتلّوا على مدى السنوات الخمس الماضية مقاعد البرامج الحوارية. فهل انتفى الظرف الذي حتّم ظهورهم في الفترة الماضية؟ أم كان الوضع السياسي مؤاتياً لكنه انضبط اليوم ليصدر أمر تواريهم عن الأنظار؟ ماذا عن دور تيار المستقبل الذي يُتّهم بأنّه يستغل السلفيين كأداة في صراعه، في ظل وجود فرضية يطرحها خصومه تقول إنّ المستقبل عندما كان خارج السلطة، كان يُحرّك السلفيين ضد أخصامه ليُهدّد بالشارع، لكنه مع عودته إلى السلطة للإمساك بزمام القيادة، هزّ عصا الملفات الأمنية لرموز السلفيين ليختبئوا أو يزجّ بهم في السجون، وهم الذين اعتادوا أن يكونوا وقود المعارك منذ عام 2005؟ أم هل بلغ الصراع الدائر بين الرئيسين نجيب ميقاتي وسعد الحريري واللواء أشرف أوجه، ليكون الحاضر الأبرز والوحيد، ويطغى على ما عداه على الساحة الطرابلسية؟
من لا يذكر الشيخ عمر بكري فستق الذي توعّد برفع الراية الإسلامية على قصر بعبدا؟ فستق المُرحَّل قسراً من بريطانيا، والذي كان يطلُّ كخبير في الجماعات الجهادية مجاهراً بأنّه يحمل فكر تنظيم «القاعدة»، كاد ينافس في نجوميته الفنّانة هيفا وهبي في تلك الحقبة. غير أنّه غاب اليوم، لكونه يقبع في السجن، إنفاذاً لحكمٍ يقضي بسجنه 12 عاماً. يليه شهرةً رئيس جمعية إقرأ الشيخ بلال دقماق، الذي لم يكن يُزحزح عن الشاشات صبح مساء. الرجل الذي بَرَع في التعامل مع وسائل الإعلام متّكلاً على قاعدة «عَلّي وخود جمهور»، اختفى أثره أيضاً. لم يعد يُسمع له صوت، ما خلا بيانات معدودة يُرسلها عبر تطبيق الواتساب بلسان حالٍ يقول: «أنا موجود». دقماق كان مقرّباً من اللواء أشرف ريفي، ومن كل ذي منصب أو مسؤول في دائرة القرار. أما أبناء جلدته الذين يحسبونه على الأجهزة الأمنية، فيرون أن غيابه اليوم عن الساحة بقرار لا يملكه هو. بلال دقماق الذي ملأ طرابلس وشغل أهلها بأخباره، اختفى العام الماضي، قبل أن يظهر على قناة «الجديد» مع تمّام بليق نهاية كانون الثاني 2017، ومن ثم يعاود الاختفاء. تارة يُهدّد العلويين بسبي نسائهم، ومرةً يحتجز شخصاً في صندوق سيارته بعد ضربه قبل أن يسلمه إلى مخفر قوى الأمن، ومرة ثانية يأتي ليطرح نفسه وسيطاً في أحد الملفات الأمنية. فجأة، اختفى. ربما لأنّ المسار العام لم يعد يتطلب وجوده.
الثنائي فستق ودقماق لم يكونا وحدهما الحاضرين على الساحة السلفية. ولئن ارتبطت الفكاهة والدعابة باسميهما، فإنهما لا يملكان حضوراً شعبياً يُذكر على الساحة السلفية. فهناك مشايخ بارزون لهم ثقلهم في طرابلس، التحقوا بقافلة وسائل الإعلام، قبل أن يتواروا أخيراً. أحد هؤلاء «مؤسّس التيار السلفي» الشيخ داعي الإسلام الشهّال الذي يُحمِّل نفسه عبء رفع لواء «مظلومية أهل السنّة». ابن «أمير طرابلس» سالم الشهّال، ضُبط مستودع أسلحة يعود له في تشرين الاول 2014، أثناء سفره إلى السعودية، فاضطرّ مكرهاً إلى أن يبقى هناك بعد تعميم اسمه بصفته مطلوباً للأجهزة الأمنية اللبنانية. رفض الشهّال عرضاً بأن يعود إلى بيروت، على أن يتم توقيفه شكلياً، لساعات قليلة، لدى وصوله إلى المطار. غاب الرجل الثالث أيضاً عن الشاشة، لكنّ حضوره بقي على الساحة الافتراضية عبر حسابه على تويتر. وهكذا بات الثلاثة بين مسجون ومقصوص الجناح و«منفيٍّ» في الحجاز.
رغم أنه أكثرهم حضوراً وتمثيلاً، يحلّ في المرتبة الرابعة إمام مسجد التقوى الشيخ سالم الرافعي. الشيخ السلفي الذي نجا من محاولة اغتيال أثناء تفجير المسجد الذي يؤمّه في طرابلس في آب 2013، وأُطلقت عليه النار في عرسال في آب 2014، وتوسّط لإطلاق سراح المخطوفين اللبنانيين في أعزاز، كان الرقم واحد في أوساط السلفيين، لا سيما أنّ هيئة علماء المسلمين التي ترأسها كانت تعيش مرحلتها الذهبية لكونها حازت مفتاح الشارع، من الشمال إلى البقاع ومن بيروت إلى صيدا. الرافعي الذي ورد اسمه عشرات المرّات في إفادات الموقوفين لدى المحكمة العسكرية كأحد «مُلهمي» الراغبين في الانضمام إلى «جبهة النصرة» وأخواتها، وكمساعد لهم، حالت المظلة السياسية دون استدعائه للاستماع إليه. حاله من حال المستشار الأمني (السابق) للرئيس سعد الحريري العقيد المتقاعد عميد حمود الذي انكفأ في الفترة الأخيرة بعدما كان أحد اللاعبين الأساسيين بأمن طرابلس. وفيما قيل إنّ وفاة ابن الرافعي الأصغر لعبت دوراً في ابتعاده عن الساحة، إلا أنّ مصادر أمنية تقول إنّه استشعر الخطر بعد توقيف الشيخ أحمد الأسير، إذ إنّه كان يخبّئ بطل أحداث عبرا في منزله. وتقول المصادر إنّ التسوية التي أجراها تيار المستقبل معه، وكان عرّابها الوزير نهاد المشنوق، قضت بابتعاده عن الساحة مقابل «تنييم» الملف. لكن أين هو اليوم؟ يقضي أوقاته بين لبنان وتركيا التي لا يمرّ شهر من دون أن يقصدها.
الرافعي ليس الأخير، بل يحضر إلى جانبه الحاج حسام الصبّاغ. الرجل المحبوب في منطقته، رغم اتّهامه بأنّه أحد قيادات تنظيم القاعدة، كان اسمه لفترة خلت كفيلاً ببثّ الرعب، لا سيما أثناء الاشتباكات التي كانت تستعر بين جبل محسن وباب التبانة. أما اليوم، فحتى اسم الصبّاغ لم يعُد يُسمع، رغم أنّ الأخير، على عكس رفاق دربه، كان حاسماً في قراره الابتعاد عن الإعلام. استثناء وحيد يُسجّل هنا هو للشيخ نبيل رحيم الذي لم يكن رأس حربة أيضاً ولعب دور الأطفائي في أحداث طرابلس. وهو رغم غيابه لفترة طويلة، عاد إلى الظهور مؤخراً في قضية السجناء الإسلاميين.
من اتخذ قرار ابتعاد السلفيين عن الساحة الإعلامية؟ هل هم السلفيون أنفسهم أم جهة قادرة على ضبطهم؟ أحد المشايخ السلفيين سطع نجمه إعلامياً قبل أن يفرمل ظهوراته، يقول: «إنّ لكل شخص أسبابه. ولا يوجد أحداث تبرر خروج السلفيين. كذلك فإنّ الإعلام لم يعد يطرق بابنا». لكن مصادر طرابلسية تجزم بأن مفتاح السلفيين في جيب وزير الداخلية نهاد مشنوق «الذي وطّد علاقة استثنائية معهم ونجح في إقناعهم بالتهدئة». من جهته، يقول المشنوق لـ«الأخبار» إنّ علاقة جيدة تربطه بالمشايخ السلفيين بسبب الاتصال الدائم، لكنه يمنح «انعطافة السلفيين» أسباباً محلية، وأخرى غير محلية مرتبطة بمسار الأحداث الإقليمية.
يقول جازماً إنّ الخطة الأمنية في طرابلس (نيسان 2014) كانت بمثابة الحدث المفصلي الذي انكفأ بموجبه المشايخ، وتحديداً في هيئة علماء المسلمين. ويضيف الوزير أنّه لعب دور المساعد في تحريك أمور عالقة في عدد من الملفات تتعلق بالموقوفين لدى المحكمة العسكرية. غير أنّ مصادر معارضة لتيار المستقبل تقول إنّ «الملف السياسي ــ الأمني في تيار المستقبل يتولّاه اليوم حصراً الوزير المشنوق، بعدما كان في يد اللواء وسام الحسن قبل عام 2012». وتضيف المصادر، «إن تيار المستقبل استغلّ الإسلاميين»، مشيرة إلى أنّه «كان يلجأ إليهم عند كل ملمّة. فقد شكّل التيار اللقاء الوطني الإسلامي بعد أحداث السابع من أيار. غير أنّ اللقاء هذا جُمِّد بعد الـ«سين سين»، ليعود وتُضخّ فيه الحياة بعد سقوط حكومة سعد الحريري عام 2010». كذلك تتحدث المصادر عن ثمن للصمت. فالشيخ الرافعي الذي تستّر على الأسير وغُطِّي ملفه بثمن، لا يمكنه الخروج اليوم بموقف ضد تيار المستقبل. هذا الكلام تؤكده مصادر الرئيس نجيب ميقاتي التي ترى أنّه «كان المتضرر الأول ممّا جرى». وتقول مصادر رئيس الحكومة الأسبق لـ«الأخبار» إنّ «من أبعد السلفيين عن الساحة هو نفسه الذي كان يُجيِّشهم»، مشيرة إلى أنّه بعد سقوط حكومة ميقاتي وعودة الحريريين إلى السلطة انتهى التجييش.
لكنّ لوزير العدل السابق أشرف ريفي رأياً آخر. ريفي الذي لا يوافق على مقولة تحريك السلفيين من قبله أو من قبل تيار المستقبل، يرى أنّ «ضعف التيار أفرغ الساحة الطرابلسية أمام المتشددين». يقول المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي لـ«الأخبار»: «نحن نمثّل الاعتدال القوي، بينما تيار المستقبل هو اعتدال الضعيف». ويضيف: «كانت طرابلس مخطوفة لأن المعتدلين كانوا منكفئين وجالسين في بيوتهم، ونحن أعدناهم اليوم»، مشيراً إلى أنّ «كل استطلاعات الرأي، لا سيما الأمنية منها، تؤكد أنّ الجوّ المتشدد لا يتجاوز في المئة من أهل طرابلس». ويلفت ريفي إلى أن «طرابلس عاصمة السنّة تمثل الجماعة الإسلامية من سكانها في المئة مقابل . في المئة للسلفيين. أما البقية الباقية فمعتدلة، كان يسيطر عليها تيار المستقبل، لكنه خسر معظمها اليوم».
وفي السياق نفسه، ترى مصادر طرابلسية أن السلفيين «كانوا أداة ضمن الأجندة الإقليمية التي يقودها تيار المستقبل وريفي، ليس فقط في وجه حزب الله، بل ضد السنّي الخصم أيضاً». أما لماذا انكفأوا، فترى أنّ «الوظيفة كانت وظيفة أمنية مرتبطة بسوريا». صعود السلفيين في لبنان ترافق مع تقدّم