يؤسس الصراع العسكري بالمنطقة لنقطة عبور نحو «انطلاقة» جديدة يرى فيها أطرافه نقطة «النهاية» وقدرة تحكُم جديدة بشكل العملية السياسية المقبلة مع تبدّل وتغيير عناصر متعددة بالسنوات السبع الماضية، وهي نهاية بمعتقدهم لمشروع لمصلحة الآخر في حين لا يبدو أن «الإخفاق» في الخطط المعمول بها مؤشر على نهاية فعلية لأي من الأطراف. فلا شيء ينتهي بانتهاء الحرب ولا مفاوضات من دون الأطراف نفسها وإذا صحّ استبدال كلمة بأخرى «نهاية» أقرب الى المنطق، فإنها بالتأكيد ستكون «إعادة تموضع» في الواقع الجديد من دون الالتفات لتحقيق نقاط غالبة ومغلوبة في منطقة قد لا تحتمل ذلك لأسباب عديدة.
تبدو مسألة العودة الى الوراء بالنسبة للسعوديين شبه مستحيلة ولا تبدو فكرة التنازل واردة لا لسبب منهجي أو مبدئي، إنما لأسباب تتعلّق بمعنوية الموقف التي تطلقه السعودية في المنطقة مع ما تمثله كحليفة للولايات المتحدة الأميركية، وإذا كان للنظام أن ينكسر بوجه إيران مثلاً، فإن هذا الانكسار المترجم «انتصاراً» للإيرانيين لن تقوم له قائمة في واقع طائفي مرير تبدو إيران أكثر مَن يدرك مخاطره، فلا توفر فرصة تدعو فيها السعودية للحوار معها بلسان مسؤوليها ولا توفر أرضية للتقارب في شتى ملفات المنطقة، حيث كان لبنان مثالاً غير مباشر عليه بانتخاب رئيس للجمهورية وتوافق حليفيهما «حزب الله المستقبل». تُضاف الى ذلك مساعٍ إيرانية للتوافق حول موسم الحجّ لهذه السنة فيما بدا أن هذا التواصل قد نجح فما كان إلا أن توجّه وفد إيراني للرياض للبحث في المسألة رغم كارثة «منى» والتضرّر الكبير لطهران منها.
لا تريد إيران إغلاق الباب بوجه السعودية. وتبدو حريصة بل «ساعية» لتوفير أي فرصة للتقارب معها. «لا» لأنها تشعر بتفوق سعودي غير موجود في لحظة تفوق إيراني « نووي»، بل لإدراك إيران أن أي قطيعة دائمة للسعودية هي تهديد بحرب ذات طابع طائفي «سني شيعي»، لم تثبت التحالفات السياسية الحالية أنها كذلك حتى اللحظة، ما يشكل ارتياحاً «مفترضاً» فبقاء الصراع الإيراني – السعودي ضمن حدود «سياسية» يشكل صمام أمان للمجتمع الخليجي – الإيراني المجاور والعربي بطبيعة الحال.
جهدت إيران لعدم إعطاء الصراع طابعاً طائفياً وابتعدت في خطابها الموجّه للسعودية «رسمياً» عن أي خطاب ديني بغض النظر عن محاولات السعودية اعتبار بعض رجال الدين الإيرانيين يمعنون في استهداف النظام «الوهابي» السعودي وحلفائه أيضاً في الجزيرة العربية. وهم الأقليات في البحرين والسعودية، لكن وبالواقع فإن هذا لم يخرج يوماً عن جهة رسمية إيرانية كموقف عام وواضح بل على العكس لا تزال تسيطر دعوات الحوار.
قلق من الجهة السعودية كشف عن هواجس لم تكن يتوقع الحديث فيها «إعلامياً» وأتى عبر وزير الدفاع الامير محمد بن سلمان.
اعتبار الأمير السعودي بن سلمان مسألة الحوار مع إيران والتقارب منها «مستحيلاً» هو إعلان رسمي من شخصية سعودية تتبوأ مسؤلية أمنية كبرى وهو ما يقطع دابر التحليل والتقدير العقيم. فالعقدة عند بعض المسوؤلين السعوديين لا تتوقف عند شكل النظام الإيراني أو السلاح النووي بل تعود الى جذور عقائدية وفكرية أيضاً.
الخلاف على فكرة ظهور الإمام «المهدي» الذي ينتظره الشيعة عموماً أخذ حيزاً بليغاً من الجدل على شبكات التواصل الاجتماعي عند الشباب العربي المسلم، واحدث جدالاً في مناطق داخل السعودية، خصوصاً المنطقة الشرقية حيث لم يلتفت بن سلمان إلى أن هناك كتلة وازنة في تلك المنطقة قادرة على الدخول والانتقال من نقطة مطالبة بحقوق كما هو الحال الآن الى حرب طائفية مع النظام لشعورها بالاضطهاد الديني هذه المرة، إذا ما اعتبرت أن النظام يسيء لمعتقداتها التي حصرها بن سلمان بإيران وحدها غافلاً ما شرحه أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله كبديهية، أنه ملف عام يتعلّق بالشيعة كلهم والمسلمين حتى من أهل السعودية.
ردّ نصرالله على بن سلمان جاء مباشراً، لكنه مقلق أيضاً. وإذا كان كلام بن سلمان استدعى رد وتوضيح نصرالله بهذا الشكل، فهل هذا يعني الدخول في المحظور وكشف الخيط الطائفي من الخلاف بالنسبة للسعودية والعمل على أساسه في سلوكها السياسي والعملي؟
تتزامن مع هذه الأجواء، موجة حصار يتعرض لها سكان العوامية في السعودية. وهي منطقة يقطنها «شيعة» معارضون للنظام باتوا ومنذ لحظة إطلاق بن سلمان كلامه يستشعرون الخطر الأكبر والإرهاب المقبل عليهم. فالمشكلة باتت «طائفية» بالتعاطي معهم. وهم أدركوا ذلك، لا مسألة محافظة على الحكم والنظام وتشير المعلومات الواردة من العوامية القطيف شرقي المملكة أن السلطات أغلقت الطرق الرئيسية المؤدية إليها بما يشبه الحصار على الطريقة الإسرائيلية لغزة مع أعمال تهديم منازل وترهيب أصحابها عدا عن أن الأهالي يتعرّضون في كل مرة لهجومات مباغتة.
إعطاء طابع سياسي للحرب الدائرة ساد لسنوات طويلة فأتى بن سلمان ونسفها بلحظات باعتباره أن مانع الحوار مع إيران هو ماورائيات تؤمن بها.
لا تهمّ هنا مناقشة مسألة النضج السياسي لبن سلمان ما إذا كان الواقع يشير إلى تمتعه بصلاحيات «مَلَكِية». فالأهم هو السيطرة على طبيعة الصراع الذي دخل «المحظور» والتعاطي العنيف والمتصاعد مع المنطقة الشرقية كمنطقة معزولة دليل دامغ على مخاطر تنامي كرة النار الطائفية هناك والقادرة على التمدّد.