لا تضاهي صورة بيروت من قصر برمانا أيّ صورة أخرى، سواء في لندن أو باريس أو الولايات الأميركية أو حتى موناكو. وابتسامة صاحب القصر لا تشبه بطبيعة الحال ابتساماته هناك. عصام فارس في لبنان هو غير عصام فارس في أي مكان آخر. ينسى الثمانينيّ الودود عصاه حين يتحرك بحماسة بين غرفة وأخرى كأن قدمه نفسها ما عادت تؤلمه.
من «الحادثة اللعينة» التي أخّرت عودته ثلاثة أشهر يستهل الحديث عن رغبته الشديدة في العودة منذ انتخب الرئيس ميشال عون. لا أحد يعلم كيف بدأت هذه العلاقة بين الرئيس ونائب رئيس الحكومة السابق وتوطدت بهذا الشكل، إلا أن الحديث في بيت فارس عن الرئيس والوزير جبران باسيل أشبه بالحديث عن أفراد من عائلة واحدة. ولا شك في أن تكريم البطريركين الماروني والأرثوذكسي وسخاء البطريرك بشارة الراعي في الودّ والإعراب عن التقدير أثّرا في النائب العكاري السابق الذي يتوقف أيضاً عند حفاوة الاستقبال الحريريّ، حيث جمع الحريري معظم قيادته الحزبية.
لكن المحطة الأبرز خلال الأيام القليلة الماضية طبعاً في قصر بعبدا، علماً بأن فارس قادر على إبقاء ما يحصل في تلك اللقاءات خلف الأبواب، وإن كان المقرّبون منه يجزمون بأن اللقاء كان إيجابياً جداً، علماً بأن الرئيس عون يرى أنه حقق نقلة في التمثيل النيابي والمشاريع الإنمائية ومشاريع الوزارات في جبل لبنان والبترون وجزين، ولكل من زغرتا وبشري وزحلة من يدافع عنهم، إلا أن أوضاع عكار كانت ولا تزال سيئة، والرئيس يعلم أن قانون الانتخاب – أياً كان – لن يغيّر في الواقع العكاري الكثير. ويمكن في هذا السياق فهم حماسته لعودة فارس إلى هذه المنطقة التي كانت توصف بالخزان العونيّ. ولا شك في أن حديث الرئيس أمس عن المنطقة الاقتصادية الحرة في عكار والمشاريع الإنمائية الجديدة وغيرها، إنما هي مقتطفات من غداء الثلاثاء. وبعيداً عن مديح فارس الذي تجنّدت له جميع الوسائل الإعلامية، لا شك في أن الرجل يملك في جيبه مئات المفاتيح التي في وسعها تقديم إنجازات مهمة للعهد ومصالحة الحريرية مع معقلها الأبرز: مفتاح للمستشفى الحكوميّ والمستوصفات، مفتاح لكليات الجامعة اللبنانية بعد الفرع الخاص في جامعة البلمند، مفتاح الحدائق العامة بعد إنجاز القصور البلدية، مفتاح إنعاش البلديات، مفتاح مطار الرئيس رينيه معوض، مفتاح البرادات الزراعية والصناعات الغذائية وشركات التصدير، ومفتاح المصارف طبعاً. ولا بدّ هنا من القول إن الزفت يحتاج إلى مفتاح في عكار، وهذا المفتاح الذي لا توجد نسخ عنه، موجود في جيب فارس.
حفاوة الاستقبال الرسمي تتسابق مع التهليل الإعلاميّ، لكن الاثنين لا يضاهيان الاحتفالية الكنسية المارونية والارثوذكسية التي بلغت أمس حدّ قول مطران عكار: «كنا نقول المسيح قام حقاً قام، لكننا الآن نقول: المسيح قام وعصام عاد». وبعيداً عن الأسباب المختلفة وربما المتناقضة التي تحوّل زيارة نائب رئيس حكومة سابق لبلده إلى حدث كبير، رغم وجود نائب رئيس حكومة حالي وعدة نواب رؤساء حكومة سابقين يعيشون بيننا، من الواضح أن جميع القوى السياسية والدينية تحتاج بشدة إلى شخص تتّكئ عليه، في ظل استكمال مؤسسة فارس تحضيراتها في عكار لتضمن أن يتجاوز الاستقبال الشعبي الحماسة الرسمية والكنسية.
هذا كله يؤثر في فارس الذي انتقل من التكتّم المطلق على أبعاد زيارته وخطوته التالية إلى الحديث في مجالسه الخاصة عن حتمية ذهاب رئاسة مجلس الشيوخ إلى الطائفة الأرثوذكسية، لأن هناك رئاستين للطوائف الإسلامية ويفترض أن يكون هناك رئاستان أيضاً للطوائف المسيحية، إضافة إلى كون الطائفة الأرثوذكسية المكوّن الطائفي الرابع على صعيد الحجم الذي ألحق به «ظلم كبير» نتيجة غياب الصلاحيات الجدية لنائبي رئيس مجلس الوزراء والنواب، في ظل حديث المقربين من فارس عن وجوب أن يكون رئيس مجلس الشيوخ شخصية معتدلة وقادرة على إدارة النقاش بتوازن بين المكوّنات المذهبية التي يتكوّن منها هذا المجلس. ولا بدّ هنا من القول إن فارس الذي رفض تولّي وزارة الدفاع من دون نيابة رئاسة الوزراء لاعتقاده صراحة أن الانسان يتطلع إلى التقدم لا إلى التراجع، يتجنّب الخوض في أي قضية سياسية آنية، ويأخذ سائله مرة تلو الأخرى بلباقة إلى موضوع آخر. أما الموضوع الأهم المتعلق بهدف هذه العودة ونياته الانتخابية، فلعله توضح أكثر بعد زيارات الثلاثاء الماضي لبعبدا وعين التينة والسراي الحكومي. لكن التطور الوحيد حتى الآن يتمثل في انتقال فارس من القول إنه لا يفكر في العودة السياسية إلى القول الآن: قد أترشح وقد لا أترشح، وهو ما يعتبر في حالته نقلة نوعية في التعبير عمّا يفكر فيه. لكن معلومات «الأخبار» تشير إلى أن فارس اتخذ في اليومين الماضيين الإجراءات اللازمة لتجديد موكبه، وتشهد منازله، سواء في جبل لبنان أو بَينو العكارية، ورشة حقيقية تشمل التجهيزات اللازمة لتمضية وقت طويل في لبنان.
وعليه يصعب تخيّل فارس يصرّح بشيء قبل إقرار قانون الانتخاب واتفاقه مع رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب على خارطة طريق خالية من الألغام. لكن الأكيد أن الاحتفاء بأي شخص بالطريقة الحاصلة مع فارس يجعل من الصعب جداً تخيّله يدير ظهره لما يحبّه هو فعلاً من أجل العودة إلى الحياة الباردة.