في بداية الشهر الجاري احتفل عمال وشغيلة لبنان والعرب والعالم بعيد العمال، الذي يصادف في الأول من شهر أيار من كل عام. غير أنه بدل أن يتحول العيد إلى يوم للاحتفال بإنجازات تحققت لمصلحة رفع مستوى معيشة العمال والشغيلة وتحقيق الانجازات التي تجعلهم يعيشون حياة كريمة تسودها العدالة الاجتماعية، تحول إلى يوم للاحتجاج على ظروفهم الصعبة والمزرية التي باتوا يرزحون تحت وطأتها إن كان نتيجة ازدياد البطالة وانتشارها على نحو غير مسبوق في أوساط الشباب، ولاسيما الخريجين منهم، أو كان نتيجة تعمق الهوة بين الفقراء والأغنياء وتعميم حالة الفقر والبؤس وانسحاق المزيد من المنتمين إلى الطبقات الوسطى وانضمامهم إلى صفوف الفقراء.
واذا كانت الأرقام في الدول العربية ولبنان غير متوافرة عن نسب البطالة والفقر إلا أن التقديرات تتراوح بين الـ 20 و30 بالمائة، فيما هي بلغت في بعض الدول الاوروبية مثل اسبانيا عتبة الـ 20 بالمائة. والأمر لا يتوقف على ذلك بل أن المكتسبات الاجتماعية التي حققها العمال والشغيلة بفعل نضالاتهم عبر عشرات آلاف السنين، باتت عرضة لهجوم الرأسمالية المتوحشة التي تحاول تعويض تراجع نسب ارباخها بفعل المنافسة الاقتصادية العالمية، عبر تعديل قوانين العمل( على غرار ما يحصل في فرنسا وأميركا..الخ)، وفي لبنان جرى إقرار أول إجراء حكومي لتقويض مؤسسة الضمان الاجتماعي لمصلحة الشركات الرأسمالية الخاصة المتهربة من دفع اشتراكاتها.
وما يزيد الطين بلة التراجع الكبير في القدرة الشرائية للأجور التي تآكلت بفعل التضخم والارتفاع الجنوني للأسعار في ظل غياب ضوابط حكومية تضبط هامش الربح في السوق تحت ذريعة حرية السوق، لكن من يحمي الطبقات الشعبية من هذه الحرية التي لا ترحمهم وتحول حياتهم إلى جحيم لا يطاق.
إذا كانت الحروب والفوضى وانعدام الاستقرار والأمن في العديد من الدول العربية سبب من اسباب الأزمة إلا أن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة في لبنان والعديد من الدول العربية هي التي تقف وراء الأسباب الفعلية للازمات التي تشهدها، وبالتالي تراجع فرص العمل وتدهور مستوى معيشة عامة المواطنين.
فهذه السياسات تقوم على:
أولاً: التركيز على دعم القطاعات الريعية غير المنتجة للقيمة المضافة، وهذه القطاعات تشمل المصارف والعقارات، في حين يجري إهمال قطاعات الاقتصاد الإنتاجي المولدة للنمو الحقيقي وفرص العمل، والتي من دونها لا يمكن الحديث عن تنسيط الحركة الاقتصادية والسياحة والتجارة والخدمات، وحتى حركة الإعمار، في وقت معروف أن الاعتماد على القطاعات المالية لا يؤدي عمليا إلا إلى مركزة الثروة في يد القلة من المودعين الذين يوظفون أموالهم في سندات الدين بدلا من استثمارها في اقامة مشاريع إنتاجية، ويشجع على ذلك السياسة الحكومية التي تعمل على تمويل مشترياتها وسد العجز في الموازنة من خلال سندات الدين وفوائدها المرتفعة مما يسحب السيولة من السوق.
ثانياً: سياسة الاستدانة بواسطة سندات الخزينة مقابل فوائد مرتفعة هي الأعلى في العالم، مما أدى إلى زيادة حجم الدين العام الذي يقدر حسب آخر الارقام دـ 75 مليار دولار، ووفق موازنة العام الجاري سوف يبلغ الرقم عتبة الـ 80 مليارا بزيادة خمسة مليارات، وطبعا هذه السياسة أدخلت لبنان في حلقة جهنمية لا يستفيد منها سوى المصارف وكبار المودعين الذين يجنون العائدات الطائلة كل عام، فيما يؤدي ذلك إلى زيادة العجز في الموازنة وحرمان الاقتصاد من أي مشاريع منتجة، وتحميل المواطنين أعباء الدين عبر فرض المزيد من الضرائب، فيما يجري الإحجام عن فرض ضرائب على اصحاب الدخول المرتفعة والمكتتبين في سندات الدين، بل والتواطؤ مع المصارف في ما عرف بالهندسة المالية التي اقدم عليها مصرف لبنان مؤخرا وأدت إلى تحقيق أرباح طائلة لبعض المصارف الكبرى قدرت بعدة مليارات من الدولارات. ولم يجر تبرير هذه العملية المكلفة للبلاد.
ثالثاً: اعتماد نظام ضرائبي غير عادل وغير محفز للاستثمار في القطاعات الإنتاجية، فمن جهة يجري اعتماد الضرائب غير المباشر التي تصيب جميع المواطنين على نفس السوية، بدلاً من اعتماد الضرائب المباشر التي تحمل اصحاب الدخول المرتفعة العبء الضريبي الأساسي وليس الفقراء وذوي الدخل المحدود، كما أن هذا النظام يخفف الضرائب على رؤوس الأموال أو يعفيها من الضريبة حتى عنوان تحويل لبنان إلى جنة ضريبية لاستجلاب المستثمرين إلى لبنان، في وقت يفترض أن تكون الضريبة موجهة على نحو يهدف إلى تنشيط الاقتصاد عبر التشجيع على الاستثمار في مجالات إنتاجية وإقامة مشاريع تخلق فرص عمل وترفع معدلات النمو الحقيقية، من خلال إعفاء وتقليص نسبة الضرائب على من يستثمر في هذه المجالات.
رابعاً: غياب الرقابة والمحاسبة، وإشاعة الفساد في مؤسسات الدولة، لا سيما عبر الصفقات التي يتم عقدها بالتراضي أو من خلال تلزيمها للشركات المحسوبة على النافذين في السلطة، أو لقاء عمولات كبيرة...الخ.
ومعروف أن الأموال التي تهدر في لبنان نتيجة عمليات الفساد تقدر بعدة مليارات من الدولارات.
هذه السياسات الرأسمالية الريعية هي السبب الأساسي في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العمال والشغيلة في لبنان.