ولّدت الهندسة الدبلوماسية الدقيقة لزيارة الرئيس دونالد ترامب الى إسرائيل خلافاً بل إلتباساً كاد يطفو حادّاً على السطح لكنّه سرعان ما تراجع وإنطفأ من دون جدل أو حسم ، لكنّه أثار لدينا مسألة شديدة الأهميّة تستحق التوقّف عندها بهدوء وموضوعية أكاديمية. فعندما قال دبلوماسي أميركي من دون أيّ تنسيق مع الجانب الإسرائيلي أنّ " لا سلطة لإسرائيل على حائط المبكى" المعروف ب "حائط البراق" في المفهوم العربي والإسلامي، سقط جدار من الغضب والإحتجاج الإسرائيلي على البيت الأبيض الذي سارع الى نفي هذا القول الذي لا يعبّر لا عن قناعات واشنطن ولا الرئيس ترامب.
يتجاوز الحادث الدبلوماسي اللفظة الى المكان بمعناه وحدوده التاريخية، والسبب أنّ غضب إسرائيل وتهديدها بالإنسحاب من التفاهم مع الأميركيين، بالإضافة الى تحرك سفيرها رون دريمرالذي سرعان ما وصل البيت الأبيض محتجّاً رسمياً ومطالباً بتراجع الدبلوماسي عن قوله ودحضه له والتصريح بنقيضه أمام وسائل الإعلام في العالم وهذا ما لم يحصل.
لماذا لم يحصل؟ لربّما لقناعةٍ رسميّة أميركيّة أقوى من الدبلوماسي بأنّ الجدار هو في الضفة الغربيّة، في ظلّ سياسة هائلة من الإستيطان، هذا من دون التذكير بأنّ إختيار ترامب لإسرائيل محطّة لزيارته خصوصاً وهو الرئيس الأميركي الأوّل الذي يهزّ رأسه أمام الجدار، وأنّ الهاجس الإسرائيلي الملحاح اليوم هو إنصياع أميركا والعالم بهدف تحقيق سيادتها الكاملة على القدس.
يمكننا إدراج مثل هذا القول المشكلة بصفته "زلّة لسان" أو "فعل ناقص" أو " قول مرتجل" أو "قول مقصود" أو "تسريبة حافلة بالمعاني" لم يحن وقتها بعد، لكنّ الأمر يتجاوز مسائل التعبير واللغات والمصطلحات والترجمات الدولية التي لطالما كانت تكمن فيها تشابكات النصوص وضياع الحقوق والدول وتوسّع الشتات الفلسطيني والعربي.
نتجاوز هذا "الحدث الدبلوماسي" الى عبرة التمسّك بالتاريخ ومعانيها التي تفرز الدول وتعاقب الأجيال فيها الى أنواعٍ ثلاث مهما كان شكل أنظمتها: دولة ذات نظام قوي وشعب قوي، ودولة ذات نظام قوي وشعب ضعيف، ودولة ذات نظام ضعيف وشعب قوي. ليس مهمّاً إعطاء أمثلةٍ على هذه الأنواع، لكن إسرائيل تبدو من الصنف الأوّل، ولم يتردّد رئيسها رؤوفين ريفلين من مخاطبة ديفيد فريدمان سفير أميركا في إسرائيل لدى تقديمه لأوراق إعتماده وبصوت صارم: تذكّر أن عمر القدس هو من عمر الملك داوود".
وهنا أطرح على نفسي سؤآلاً مهمّاً: لماذا ذكرت إسرائيل سبع مرّاتٍ في هذه المقالة حتى الآن، ولم تضعها بين قوسين أو وضعت بدلاً منها " فلسطين" أو "فلسطين المحتلّة" أو "فلسطين الجريحة" ألخ من التسميات العربيّة؟
الجواب: لأنّني تقصّدت ذلك لسببين:
الأوّل: لأنّني مع زملاء لي في المعهد العالي للدكتوراه، نواجه ظاهرة جديدة أنّ الكثير من طلاّب العرب يكتبونها كذلك وأحياناً يسمّونها دولة إسرائيل حتّى من بعض الطلاّب الذين يغالون في قناعاتهم ومواقفهم من إسرائيل. كان مصطلح " إسرائيل" من المحرّمات في الكتابة العربية. يعرف هذا الأمر الكتّاب والصحافيون ويعاينه الباحثون في النصوص. ويكفي استرجاع بعض هذه النصوص لمعرفة معنى هذا الكلام وأبعاده إذ كان من الطبيعي أن نقرأ عن فلسطين أو فلسطين المحتلّة أو الأراضي المحتلة الى تسميات أخرى مفتوحة على توصيف الجرح العربي الأكبر الذي لم يعرف دمه اليباس ولا الإسوداد منذ 1948 وصولاً الى السؤآل عن مستقبل القدس. ما هو مستقبل القدس؟
الثاني:تتشوّه الأدوار والمكانات بين مقدّسات العرب ومحرماتهم، ويفتتح الجرح على جراح جديدة. ونبدو في حالٍ من الإعياء بين الأمّة والوطن والشرق غير المستقر، في الوقت الذي تتقدّم فيه "إسرائيل" بسرعة قياسية نحو تحقيق التمسّك الصلببالتاريخ خصوصاً بعدمازُجت الأديان والإسلام منها بشكلٍ خاص في أتون الصراعات الذي أشبع ويشبع بدوره بوقود وأساليب حامية تذكي النيران والحروب المحمولةPortable . وكلّ ذلك مقدّم على شكل هدايا ملفوفة بالأوراق والمشاريع والمبادرات منذ وعد بلفور حتى تعبيد طريق حلف شمالي الأطلسي بحجّة الأمن والإستقرار. يأتي ذلك كلّه تحت عناوين وأفكار عامة مثل الشرق الأوسط الكبير وصراع الحضارات أو نهاية التاريخوعدتها العولمة وسهولة الاتصال وسقوط الحواجز والحدود.
منذ كامب دايفيد وتداعياته في أوسلو ومؤتمر مدريد وصولاً الى العراق بعد الغزو الأميركي وتداعياته، أصبحت " إسرائيل" في نصوص الشرق الأوسط المكبّر من المقوّمات لا من المحرمات ولو بقينا نكتبها بوصمها العدو الغاصب، والمغتصب الصهيوني والعدو المحتل والغاشم والمغتصب الإسرائيلي.لقد إستغرق الشيخ محمد مهدي شمس الدينعندما كتب بتوسّعٍ عن مظاهر التطبيع اللغوي والثقافي والإجتماعي الذي يفكّك مقولات التاريخ والقناعات والأفكار والمواقف الى حدود الليونة ، ناهيك عن التحيّز الأممي القوي الى جانب إسرائيل. وهذا ما قادنا الى مسألة أخذت حيّزاً كبيراً من المجادلات لدى الكتّاب والمفكّرين والإعلاميين العرب أعنيالممانعة عندما دخلتإسرائيل الى عاصمتين عربيتين هما القاهرة وبيروت.تخرج "اسرائيل" من بين القوسين في خلافات وتجاذبات فعلية جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية خلافاً لما صار عرفاً ثابتاً من انصهار بين الدولتين، وتتخطى المسائل، بالطبع، المفارقة في الأبعاد اللغوية، على الرغم من أن اللسان قيمة تنزّ باللغة والتعابير التي ترشح من الفكر وتعكس، كما هو مفترض، المضامين والنوايا والإسقاطات. إنّها تحديات التاريخ وتسمياته وكيف تحمل الكلمات معانيها وأمكنتها بين الثوابت والمتحوّلات.