من يعتقد أن بإمكانه فرض تسوية للصراع العربي الصهيوني على القاعدة التي تحقق للمشروع الصهيوني أهدافه بتصفية الحقوق الوطنية للشعب العربي الفلسطيني، وفي مقدمها حق اللاجئين الذين شردوا من أرضهم وديارهم عام 1948، عام النكبة الفلسطينية، بالعودة إلى وطنهم وقراهم ومنازل آبائهم وأجدادهم، أو حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في وطنه وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وإجباره على التسليم بإقامة الدولة اليهودية العنصرية فوق أرضه، إن من يعتقد ذلك فهو واهم واهم حتى ينقطع النفس.
مناسبة هذا الكلام هو ما أوردته صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية نقلا عن مصادر واسعة الاطلاع على مساعي استئناف المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية من أن «أبو مازن» أوضح للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال لقائه في البيت الأبيض الأسبوع الماضي، أنه جاهز للتوقيع على اتفاق برعاية الإدارة الأميركية بلا إبطاء. ووفق المصادر نفسها، ينوي ترامب سحب تعهد من رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتانياهو، خلال زيارته لإسرائيل، وأن يدفعه إلى الإعراب بدوره عن الاستعداد للتوصل إلى «اتفاق سلام».
فتوقيع «أبو مازن» أو غيره على اتفاق مع حكومة العدو، لا بل استجداء مثل هذا الاتفاق، لا يلزم لا الشعب الفلسطيني ولا الشعب العربي وقوى المقاومة والتحرر، بل إنه سيؤدي، كما جرى بعد توقيع أوسلو وغيره من الاتفاقات المشؤومة، إلى تصعيد المقاومة والانتفاضة ضد الاحتلال. فتاريخ الشعب الفلسطيني، منذ ما قبل النكبة وحتى اليوم، تاريخ حافل بالمقاومة التي لم تهدأ، وهو لم يتوقف عن القيام بالانتفاضات الشعبية ضد الاحتلال، وما الانتفاضة الفلسطينية الثالثة التي اندلعت قبل عام، ويقودها جيل أوسلو، إلا دليلاً ساطعاً على أرادة المقاومة التي يتمتع بها شعب فلسطين، على الرغم من الأوضاع الصعبة، فلسطينياً وعربياً، فالعرب غارقون في مواجهة حروب ومؤامرات داخلية وصراعات أبعدتهم عن أولوية دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته في مواجهة الهجوم الصهيوني الاستيطاني- التهويدي وإرهابه وجرائمه الوحشية. أما الفصائل الفلسطينية فإنها تعيش حالة صراع مستمر بدلاً من السعي إلى بلورة استراتيجية وطنية تحررية والعمل على ترجمتها عبر العودة إلى استئناف المقاومة المسلحة ضد الاحتلال لتعانق انتفاضة القدس. لا بل أن بعض الفصائل تتلهى بالانتخابات والسلطة وكأن الشعب الفلسطيني حرر أرضه ولم يعد لديه أولوية مقاومة الاحتلال والعمل على توفير شروط هذه المقاومة، إن في ظل الاحتلال، أو في المناطق التي لا تخضع لاحتلال مباشر. في حين أن السلطة الفلسطينية تمعن في مواصلة سياسة المراهنة على المفاوضات على الرغم من موتها، وتوغل في نهج المساومة وتقديم التنازلات، من دون الاتعاظ مما حصل من نتائج كارثية نتيجة الرهان على مسار أوسلو، بل أن السلطة تصر على تطبيق بنود هذا الاتفاق، لاسيما التنسيق الأمني مع الاحتلال والقاضي بملاحقة المقاومين الذين يرفضون الخنوع والخضوع لمثل هذه الاتفاقات المذلة.
وإذا كانت أجهزة أمن السلطة وأمن الاحتلال لم تنجحا في تعقب واعتقال شبان وشابات الانتفاضة الثالثة الذين ينفذون عمليات الطعن والدهس وإطلاق النار على الجنود والمستوطنين الصهاينة في القدس والخليل ويافا وغيرها، فإن ذلك إنما يعود إلى عدم وجود أجهزة أمن للسلطة في هذه المناطق، وغياب أي معلومات أمنية لدى سلطات الاحتلال عن شبان الانتفاضة الذين ينفذون عملياتهم بسرية تامة ونجحوا في بناء خلاياهم بعيدا عن أعين العملاء، وتجنبوا الانزلاق إلى شرك العلنية.
على أن ذكرى النكبة تزامنت مع إضراب أكثر من 1600 أسير في سجون الاحتلال عن الطعام بما يؤكد حقيقة أن إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني إنما هي إرادة صلبة لا تلين وعصية على التطويع والانكسار، فالمعتقلون الذين لا يملكون من وسائل المقاومة شيئاً، وهم خلف قضبان السجن وفي الزنازين ابتدعوا مقاومة لا يستطيع الاحتلال القضاء، أو التغلب عليها، فهم صنعوا من أمعائهم الخاوية مقاومة، ويخوضون مع المحتل صراع إرادات، وقد نجحوا في إعادة الحيوية إلى الشارع وإشعال المواجهات مع جنود الاحتلال، وتحريك الرأي العام العالمي والعربي، ومع كل يوم يمضي يرتفع منسوب الحرج لدى المنظمات الدولية الصامتة والتي تخضع لتأثيرات الحركة الصهيونية والإدارات الأميركية والغربية، ويزداد حراك الرأي العام المتضامن مع الأسرى، ويسلط الضوء على الخطر الذي يتهدد حياة المضربين، والإجراءات التعسفية التي يتخذها الاحتلال في مواجهتهم لإجبارهم على التوقف عن إضرابهم وبالتالي إخضاعهم وعدم الاستجابة لمطالبهم.
هذه المقاومة العنيدة للشعب الفلسطيني في السجون، وفي ظل الاحتلال، إنما تؤكد من جديد أن فلسطين لم تستسلم ولم تركع وأنها مستمرة بالمقاومة، وتؤكد، بعد 69 عاما على النكبة، أنها هي البداية والنهاية، فلا حل للصراع من دون استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه المسلوبة.