تتواصل المعارك في سوريا للقضاء على تنظيم داعش الارهابي، وتشي الأنباء الواردة من الميدان السوري بأن مسألة الانتهاء من داعش باتت مسألة وقت ليس أكثر، وأن العام المقبل قد يأتي وتكون "اسطورة داعش" قد انتهت بشكل كامل.
والمفارقة، أن القضاء على داعش سوف ينهي فصلاً من فصول الأزمة السورية لكنه يفتحها على مزيد من التعقيد، حيث ستنتفي "المنطقة العازلة" التي يشكّلها داعش بين قوات الجيش السوري وحلفاؤه، وبين قوات المعارضة المدعومة من الأميركيين والدول الاقليمية.
ولعل الأسابيع التي تلت إعلان " مناطق خفض التوتر" قد أبرزت بشكل واضح وجلّي، أن الاستراتيجية الاميركية وبعد ست سنوات، قد انتقلت من هدف إسقاط الأسد والسيطرة على سوريا بالكامل، الى هدف قطع التواصل الجغرافي بين كل من العراق وسوريا، ومحاولة السيطرة على الحدود العراقية السورية لمنع التواصل الجغرافي الاستراتيجي الذي تستخدمه ايران في دعم محور المقاومة الممتد من طهران الى بيروت مرورًا عبر العراق وسوريا، ما يعني إضعافًا لكل مكونات هذا المحور بقطع شريانه الحيوي.
وقد ظهر للوهلة الأولى، أن الروس لا يضيرهم أو لا تعنيهم هذه المسألة باعتبار أن التواصل الجغرافي بين العراق وسوريا ليس من أولوية اهتماماتهم، وأن مصالحهم في سوريا تتجلى في القضاء على الارهاب، وحفظ النظام واستقراره، والإبقاء على القواعد العسكرية على المتوسط وهو حلم لم يستطع الروس تحقيقه حتى في عزّ الامبراطورية القيصرية، علمًا أن مسألة تلك الحدود تعني مسألة حياة أو موت بالنسبة للإيرانيين في المنطقة ما يعني أنهم قد يكونوا مستعدين لتحمل أكلاف كبيرة أو حتى الدخول في اشتباكات مباشرة مع الأميركيين لمنع اغلاقها بوجههم بشكل كامل كما يود الأميركيون.
وبما أن المؤمن لا يُلدغ من الجحر مرتين، فقد تبين من الإنزال الروسي الداعم للقوات المتقدمة نحو بلدة التنف، أن الروس يدركون أهمية دعم الحلفاء في مسألة مصيرية بالنسبة لهم كالحدود العراقية السورية، وخاصة أن الأهداف الأميركية في سوريا ما زالت ثابتة، علمًا أن الاستراتيجية المتبعة لتحقيق تلك الأهداف تبدلت على مدى سنوات الحرب الست وذلك على الشكل التالي:
- اعتمد اوباما في البداية استراتيجية هجومية تقضي بدعم المقاتلين المعارضين والسماح لدول إقليمية متعددة بدعم عسكري ومالي وتدريبي تحت اشراف أميركي، واستبيحت الحدود السورية مع كل من تركيا والاردن والعراق ولبنان.
- وبفشل الاستراتيجيات الهجومية المتعددة في إسقاط النظام بشكل كامل، والاكتفاء بإشغاله وتشديد الضغط عليه، وبدخول حلفاء النظام بشكل تدريجي في القتال، وباصرار الروس على التدخل العسكري ومنع إسقاط النظام بالقوة، انتقل اوباما الى استراتيجية الاستنزاف، أي محاولة تحقيق أكبر قدر من المكاسب عبر ترك الكل يستنزف الكل، على أن تقوم المجموعات التكفيرية باستنزاف كل من الروس والايرانيين والجيش السوري وحزب الله، فيتم إضعاف الجميع وتربح أميركا بدون أكلاف حقيقية.
- ومع مجيء ترامب، تمّ الترويج لإمكانية عقد تفاهمات مع الروس تعطيهم ما يريدونه في كل من سوريا وشرق أوروبا، على أمل أن يتمّ تحقيق هدف أكبر وهو " تفكيك التحالفات" بإبعاد الروس عن كل من الصين والايرانيين، ما يسمح بالضغط على الصين وباحتواء النفوذ الايراني في المنطقة بشكل أساسي.
لكن المشاكل التي يعانيها ترامب في الداخل، واستخدام الذريعة الروسية في محاولة عزله، والتهديدات الداخلية الدائمة لفريق ترامب بالخيانة، لجمت إندفاعة ترامب وفريقه تجاه الروس ودفعت الإدارة الى مسرحة حادثة "خان شيخون" وما تلاها من قصف الشعيرات، لإظهار ترامب وكأنه "بطل" ينفذ ماعجز أوباما عن تحقيقه، ولكسب التأييد في الداخل أو على الأقل، لتخفيف الانتقادات ضده.
وبالفعل، سكتت الأصوات الداخلية المنتقدة لفترة قصيرة، وأعلن بعض معارضيه أن ترامب بعد قصف سوريا "بات فعلاً رئيسًا للولايات المتحدة"!... لكن شهر العسل لم يدم، وسرعان ما استعيد الهجوم على الإدارة أقوى من ذي قبل.
إذًا، يدرك الروس أن ترامب مهما فعل ومهما قدم للداخل الاميركي، لن يُسمح له بالحكم بدون مشاكل داخلية، وستكون العلاقات مع الروس موضع ابتزاز دائم للرئيس الأميركي وإدارته، لذا لا يمكن لهم أن يراهنوا على بناء الثقة مع الأميركيين والتعاون في سوريا، لأن التجاذبات داخل الإدارة والضغوط عليها ستجعل من السهل الانقلاب على أي تفاهم أميركي روسي، وخذلان "الشريك الروسي" مجددًا.
من هنا، بات الجميع بانتظار جلاء معركة الحدود العراقية السورية ومعارك البادية السورية باعتبار أن نتائجها ستكون المؤشر الحقيقي لما سيكون عليه مستقبل سوريا ومحور المقاومة، فإن استطاع الأميركيون السيطرة على كافة الحدود العراقية السورية ( وهو أمر بات مستبعدًا بعد التطورات الأخيرة ووصول الحشد الشعبي العراقي الى الحدود مع سوريا) فيستطيعون تضييق الخناق على محور المقاومة وقد يفرضون التقسيم، وإن استطاع محور المقاومة السيطرة على أجزاء من تلك الحدود، فيعني أن السيطرة الأميركية على أجزاء أخرى قد أفرغ من مضمونه الاستراتيجي بشكل كبير.