لم يبقَ أمام الإيرانيين ما يجهلون توصيفه، ولا وضعه ضمن معايير أو حسابات تتعلق بتداعيات الحرب التي تعيش المنطقة والعالم ذيولها مع الإرهاب في العالم. ليست مجموعات عادية تلك التي تنجح في خرق الأمن الإيراني والعبث فيه. لا لأنه عصي على الخرق بعدما تمكّن الإرهاب من اختراق أكبر أجهزة الأمن والاستخبارات في العالم، بل لأن نوعية الاعتداءات التي استهدفت إيران. وهويتها تتكفل هذه المرة لاحتسابها ضمن إعلان مرحلة جديدة لا حصد الخسائر البشرية فحسب، ولا حتى التخريب، ولا هزّ الاستقرار. فهذه المرة تأتي الاعتداءات الإرهابية الأولى من نوعها في البلاد بعيداً عن التقاتل حول نفوذ إيران في المنطقة او الضغط عليها، بل هي حرب مباشرة على إيران السياسية والروحية. وهي العنوان وبيت القصيد.
تبنّت داعش الاعتداء داخل مبنى البرلمان الإيراني وضريح الإمام الخميني سريعاً. الحديث عن داعش بالنسبة للمسؤولين الإيرانيين مرتبط مباشرة بالمملكة العربية السعودية. وهم يتعاطون مع هذا التطور من الساعات الأولى التي اعقبت العملية أمس، والاعتراف الذي نشرته وكالة أعماق التابعة للتنظيم على هذا الاساس، وذلك على الرغم من استنكار الرياض للاعتداءات الإرهابية على إيران بما بدا «ضرورة» للظهور بمظهر الرافض لأعمال الإرهاب أياً كانت موجهة ضده في هذا العالم من حيث «المبدأ».
استهداف مقام الإمام الخميني يستحضر المشهد بعناوينه الكبرى. فمن استهدف إيران «الخميني» استهدف النظام مباشرة، ومن أرسل رسالة بهذا الحجم هي أولى من نوعها أرسل رسالة «ايديولجية» بامتياز تضرب صميم وروح الثورة وتصيب الإيرانيين بمفاجأة من العيار الثقيل تتكفل باستنهاضهم بشكل مخيف.
استهداف ضريح الإمام الخميني ليس قراراً عادياً. وهو يشكل بحد ذاته قرار «حرب» لا عودة عنه. وهو قرار يتطلّب شجاعة العارفين بمنهجية المواقف السياسية الإيرانية، من حيث اعتبارها خطوة ستحرّك إيران لا محالة نحو الاستفزاز هذه المرّة ويأخذها الى حيث كان يجب أن تكون من وجهة نظر المخططين الذين حبكوا الجريمة جيداً معنوياً وسياسياً وايديولوجياً.
استهداف روحية وقدسية المكان الذي يجسّد فيه الخميني فكراً ونهجاً ورمزية استثنائية يستوجب استنهاض وحشد الإيرانيين للتصرّف فوراً والردّ المباغت من دون حسابات حتى. وهنا ترتفع المسؤولية على إيران التي اتهمت السعودية مباشرة بالعملية ما يعني أنها تعرف أين تردّ، لكنها لن تردّ، وكأنها تقول للمنفذين «لن أنجرّ الى الحرب الطائفية، مع علمي بالجهة المعنية او المشغلة او المموّلة ولن أستدرج الى التصعيد في لحظة لا اريدها».
هذا لا يعني أن إيران لن تردّ أو تتصرف، مع هذا التطور الخطير في أمنها واستقرارها. وهو ما يُعتبر بعيداً عنها لسنوات خلت، بل هو تأكيد مباشر منها أن اي رد لن يكون كما خطّط له المدبّر او المستفيد، بل هو رد خارج السياق الطائفي والمذهبي في الخليج وخارج الاصطفافات جميعاً.
سياسياً: تبدو الجهات الطامحة لاستدراج إيران نحو التصعيد أكثر وضوحاً اليوم. وتبدو الولايات المتحدة الأميركية معنية بشكل مباشر بهذه الرغبة التي تؤسس وحدها لغرق إيران داخل كرة اللهب المشتعلة بالمنطقة. ويبدو أن فوز الرئيس روحاني الذي رتب البقاء على سياسة القوة الناعمة والدبلوماسية المنتصرة والهادئة كان غير مناسب للأميركيين و«الإسرائيليين» والسعوديين ايضاً الذين توقعوا فوز الأصوليين او المتشددين الذي سيرتب للتصعيد مع الغرب و«نسف» التفاهم النووي مع إيران. وهو مطلب الخليجيين و«الاسرائيليين» الأهم، ويعطي ذريعة التطرف بالمواقف ويشعل الجبهات من جديد. فيضطر الخليج وأبرزهم دولة قطر الى «الخضوع» للسياسة السعودية بعدما تفقد إمكانية تشريع مبدأ العلاقة مع إيران «الأصولية» بأي شكل من الأشكال في دول مجلس التعاون التي تتحين الرياض فرصتها فيه من أجل فك ارتباط دوله نهائياً عن طهران.
إيران روحاني تدفع الثمن اليوم، حيث القرار بانتهاج الهدوء والليونة ومسايرة الأحداث واستكمال دعم حلفائها، كما هو مرسوم في وقت تبدو علامات الاهتزاز الكبرى تلوح بأفق الخليج، وذلك بدون ان يخرق الصورة أي تبدل منهجي للسياسة الإيرانية. هناك من يريد أخذ إيران نحو التصعيد، وتغيير أجندتها وإدخالها بحرب مع دول الخليج. فالحرب وحدها قادرة على توحيده.
إيران المسالمة والصديقة التي مدت يده المساعدة لقطر في حصار السعوديين لها، لا تتناسب مع الخليج الذي يفضل إيران المتطرفة فيبقيها معزولة بدلاً من الانفتاح الذي وفره لها الاتفاق النووي مع الغرب والذي خض الخليج منذ توقيعه.
التجربة تقول إن إيران ضبطت النفس أكثر من مرة في تعاطيها مع عمليات قاسية وإرهابية استهدفتها ابرزها السفارة الإيرانية في بيروت وحتى حوادث وضعتها المملكة في فئة القضاء والقدر في حين وضعت السلطات الإيرانية علامات استفهام كبرى حولها كحادثة مقتل الحجاج الإيرانيين في «منى» بمكة.
ضبط النفس الإيراني ينسحب على حلفائها المرتبط اسمهم بها أيضاً كحوادث إعدام الشيخ نمر باقر النمر والاعتداء على منزل الشيخ عيسى القاسم في البحرين واعتقاله، إضافة الى مجازر اليمن واستهداف جنودها وقادتها في سورية، كل هذا لم يأخذها نحو الفتنة ولن يأخذها الآن، لكن الأكيد أن ردها هذه المرة سيكون نقطة قاسمة في وجه الإرهاب أبعد من أخذه ذريعة يتم استغلالها ضمن الأزمة المستعرة في الخليج.