قطر ليست في حال حرب بل في حال حصار. مفاعيل الحصار ليست أقلّ كلفةً من الحرب، لكنها أكثر رأفة بالناس، مواطنين ومقيمين. سكان قطر يربو عددهم على مليونين. ربع هؤلاء مواطنون والباقي مهاجرون من ذوي الكفاءات الإدارية والفنية والاقتصادية والمهنية إلى جانب قاعدة عريضة من المستخدمين والعمال والأجراء. من المهمّ جداً، إذاً، إبعاد شبح الحرب عن الإمارة الثرية الصغيرة جغرافياً، الواسعة النفوذ عربياً وإقليمياً.
السعودية والإمارات العربية المتحدة أعلنتا مقاطعة قطر وفرضتا الحصار عليها. هل فعلتا ذلك بالتنسيق مع الولايات المتحدة أم بمبادرة تلقائية منهما؟ انتقاد دونالد ترامب قطر لقيامها بـ «تمويل الإرهاب» حمل مراقبين للمشهد الخليجي على اتهام واشنطن بأنها وراء الحملة السعودية – الإماراتية على الدوحة. لكن ترامب سرعان ما عدّل لهجته داعياً «الشركاء الخليجيين» الى «تهدئة التوتر»، ثمّ أرفق ذلك بدعوة مفتوحة للتوسّط بينهم في محادثات تجري في البيت الأبيض.
قطر أراحتها لهجة ترامب الهادئة، لكنها أكدت بلسان أحد مسؤوليها أنّ أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني «لا خطط لديه لمغادرة البلاد وهي تحت الحصار». لعلّ ما قصد إليه المسؤول القطري أنّ الأمير لن يتوانى عن استجابة دعوة الرئيس الأميركي إذا ما جرى رفع الحصار. ترامب استجاب لاحقاً بدعوته السعودية والإمارات إلى تخفيف عزلة قطر بعدما دعا الأخيرة مجدّداً إلى الكّف عن تمويل الإرهاب.
الرياض وأبو ظبي ليستا، في الوقت الحاضر، مستعدّتين لتخفيف الحصار وتقليص المقاطعة. بالعكس، تبدوان مصمّمتين على متابعتهما لغاية الوصول إلى أغراضهما المعلنة.
ماذا تريد الرياض وأبو ظبي من الدوحة؟
تعدّدت التفسيرات. بعضها أشار إلى رغبة المسؤولين السعوديين والإماراتيين في تغيير النظام السياسي فيها. بعضها الآخر كان أكثر واقعية فأشار إلى رغبتهم في أن تُوقف الدوحة إيواء قادة الإخوان المسلمين وأن تقوم بطردهم، وبوقف تمويل التنظيمات الإرهابية المرتبطة بهم، وتغيير لهجة قناة «الجزيرة» العدائية للرياض وحلفائها، والالتزام بمقرّرات قمم الرياض الأخيرة بحضور الرئيس الأميركي.
من الممكن أن تكون هذه المرامي جميعاً واردة في الأصل، لكن تطوّر الصراع وتشابك علاقات القوى أدّيا الى التخلي عن بعضها والتخفيف من وطأة بعضها الآخر. فمن الثابت، بل من المنطقي، الآن اعتبار هدف «إسقاط النظام السياسي القطري» غير وارد إما بسبب عدم الرغبة او عدم القدرة، والنتيجة في الحالتين واحدة. لكن إجراءات المقاطعة والحصار ما زالت ناشطة على قدم وساق، وهي تتسبّب بانعكاسات وتداعيات إقليمية ودولية. فالرئيس التركي طيب رجب أردوغان استحصل من برلمانه على إجازةٍ بنشر قوة عسكرية تركية في قطر لا يقلّ تعدادها عن خمسة الآف، مزوّدة بطائرات وسفن حربية.
الموقف التركي دفع الرئيس الأميركي الى تعديل لهجته إزاء قطر بالإيحاء باستعداده للعب دور الوسيط. في المقابل، تحرّكت طهران لمواجهة السياسة السعودية – الإماراتية الهجومية واحتمال استغلالها من قبل واشنطن بأن عرضت على الدوحة تخصيص ثلاثة موانئ إيرانية لتزويدها ما تحتاجه من مواد غذائية قد تفتقدها نتيجةَ الحصار. وعرضت موسكو وساطتها في هذا السبيل.
إلى أين من هنا؟
من المبكر ترجيح سيناريوات وتسويات محدّدة. لكن من الضروري ان نضع في الحسبان الحقائق الآتية:
واشنطن ليست بعيدة عما جرى ويجري إذ من الممكن، بل من الأكيد، أن تكون الرياض وأبو ظبي قد نسّقتا معها مسبقاً في ما أقدمتا عليه لاحقاً.
الولايات المتحدة ليست، بطبيعة الحال، أداةً بيد السعودية أو غيرها. فهي دولة كبرى لها سياستها ومصالحها وتسعى إلى تعزيزها وحمايتها. ومن الواضح أنّ إدارة ترامب مصمّمة على جباية المزيد من الأموال من بلدان الخليج بدعوى أنها «أجور حماية» مستحقة ومستأخرة الأداء. ألم يحصل ترامب، خلال زيارته الأخيرة للرياض، على ما يزيد عن /350/ مليار دولار من المملكة؟ يبدو أنه يطمع بالحصول على مليارات إضافية من قطر لقاء إقلاعها عن تمويل الإرهاب.
واشنطن كانت باشرت حملة سياسية وإعلامية لإشعار بلدان الخليج بأنها مُهَدّدَة فعلاً من إيران ما يستوجب حصولها على مزيد من الأسلحة المتطورة. ألم تؤدِّ هذه الحملة الى تخصيص الرياض مبلغ /110/ مليارات دولار لابتياع المزيد من طائرات «اف -15» المقاتلة الأميركية؟
كانت قطر قد أوصت، قبل الحملة السعودية – الإماراتية عليها، على 72 من طائرات «اف- 15»، وقد أكد مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية لقناة «فوكس نيوز» أنّ ثمة تقدماً في إتمام صفقة توريد الطائرات البالغة قيمتها / 21,1/ مليار دولار. هل ثمة ما يمنع واشنطن، في حمأة الضغوط والحصار المضروب على قطر، من ابتزاز حكومتها بالمزيد من مليارات الدولارات كأجور «وساطة» مع الرياض وابو ظبي لتسوية النزاع ورفع الحصار وكتكفير Expiation عن تمويل الإرهاب؟!
«إسرائيل» يهمّها انتهاز فرصة النزاع الخليجي للاستحصال على مكاسب سياسية وأمنية. وزير خارجيتها افيدغور ليبرمان حرص على القول إنّ النزاع بين السعودية وقطر لا علاقة له بـ «إسرائيل» بل بطريقة مواجهة إيران وتنظيمات الإرهاب، وانها ليست المشكلة بل هي الحلّ ما يؤهّلها للقيام بوساطةٍ بين الأطراف المتنازعة! إلى ذلك، لن تفوّت «إسرائيل» فرصة النزاع لتمارس، عبر الولايات المتحدة، ضغوطاً على قطر من أجل استجابة طلب السعودية والإمارات بإبعاد قادة «حماس» من الدوحة ووقف دعمها المالي لها.
هكذا يتضح أنّ أميركا و»إسرائيل» مجتمعتين هما المستفيد الأول والأبرز من النزاع الخليجي المتفاقم لكونه فرصة مفتوحة للابتزاز المالي والسياسي والأمني. لكنهما لا تحتكران الاستفادة والكسب، ذلك أنّ دول محور المقاومة لن تكون حزينة لمرأى أعداء المقاومة يشتبكون في ما بينهم، ويتلهّون عنها لأسابيع وأشهر وربما لسنوات…