لا تخلو الأعمال الوثائقية الكبرى والأسماء الفنية العريقة من اعتبارها أحد أبرز من يلعب دوراً مفصلياً في تأليب الرأي العام وتزخيم حضور قضية على أخرى أو تلميع ملف على حساب آخر، وحتى تطوير علاقة الدول ببعضها وتغيير آفاقها. وهو الأمر الذي يجسّده اليوم المخرج الأميركي العريق «اوليفر ستون» الحائز على أكثر من 11 جائزة اوسكار، والمعروف بانه من اكثر المخرجين معارضة لسلطات بلاده المتعاقبة، لكنه أيضاً من أولئك المبدعين الأكثر تأثيراً في الشارع الأميركي ايضاً.
أطلّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «عنوة» مع المخرج اوليفر ستون في وثائقي خاص في 11 و12 من حزيران الحالي على شاشة showtime . وقد سرّب المخرج ستون لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية بعض مما جاء في حديث بوتين الاستثنائي وهو المقل بطلاته الإعلامية التي تحمل جزء من المصارحة واستحضار الارشيف بغية إرسال رسائل لمن يعنيهم الأمر.
يؤكد المخرج أنه تحدّى بوتين في أسئلة مقصودة كي لا يتهم بالليونة معه، وقد فوجئ بتفانيه. وقال كخلاصة ما سجله معه للوثائقي إنه بعد كلام الرئيس بوتين فهو شخصياً «لا يصدق أن روسيا ساعدت في تنصيب ترامب رئيساً للولايات المتحدة». وأشار إلى أن الأميركيين يحاولون اتهام روسيا بالتسبب بالمشاكل والمصائب في العالم كله.
هذا الحديث الذي توقف فيه المخرج عند تدخلات روسيا في الانتخابات الأميركية، وهي الاتهامات المنوطة بفوز ترامب والتي أدت لتدهور العلاقات بين الطرفين واهتزاز ادارة الرئيس ترامب وتوالي الاستقالات فيها، وهي الحديثة نسبياً، يأتي في ظل وقوع الرئيس الأميركي بين نارين: أولاً رسم شكل العلاقة مع روسيا نظراً لما لها من ضرورة في استكمال المفاوضات، خصوصاً في الشرق الاوسط وما يتعلق بالازمة الكورية الشمالية ايضاً وصولاً للمفاوضات السياسية المفترض أن تعقد بنهاية المطاف بين الدولتين الأكثر تأثيراً في صناعة السياسة في الشرق الاوسط، الولايات المتحدة وروسيا، وثانياً بين تهديدات بعزله وهو ما اعلنت عنه شبكة الـ»سي ان ان» في الاسبوعين الماضيين كإجراء قد يتجه اليه الأميركيون في حال ثبوت اتهام ترامب بالفساد او الخيانة. وهو ما يسمح للكونغرس بالتصويت على ذلك والعزل، على ما اعلمت تلك المصادر البيت الابيض.
كل هذا وسط توقعات أن يشدّ العرض انتباه الملايين خارج روسيا، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا على خلفيات التغييرات الطارئة سياسياً، لكن الشارع الأميركي يبقى الأكثر اهتماماً بما سيقوله بوتين عن هذه العلاقة الفريدة التي بدت قبل الانتخابات «مميزة»، على ما كان قد اعلن ترامب وأسهب في خطابات الإعجاب التي يكنها للرئيس بوتين، والتي اصبحت بعد فوز ترامب ذريعة للتوترات التي شكلت عاصفة في الشارع الأميركي بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية عام 2016 والمزاعم بوجود صلات محتملة بين روسيا وإدارة الرئيس دونالد ترامب وهو التدخل الذي تعترف فيه واشنطن لأول مرة والذي يكفل وحده هزّ صورة السيادة والقدرة الداخلية على تحصين المجتمع الأميركي من عبث الخارج، بغض النظر عن اعتبار هذا الملف واحداً من رواسب العلاقة السيئة بين وزيرة الخارجية السابقة والمرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون والرئيس فلاديمير بوتين.
اللافت بهذا الإطار حسب خبير بالشؤون الأميركية لـ«البناء» أن الإعلام الروسي يتمتع بشعبية واسعة لدى الأميركيين وأن هناك محاولات حجب لمحطة «روسيا اليوم» الناطقة بالانكليزية كان قد بدأ منذ عام 2012 عن الأميركيين، معتبراً ان الاعلام الروسي كان في فترة من الفترات اكثر مشاهدة من الإعلام الأميركي بحد ذاته الذي ثبت انحيازه الدائم بما يتعلق بالشرق الاوسط ومكافحة الارهاب الى الدول الخليجية و«إسرائيل».
سياسياً، لا توضع المقابلة الوثائقية هذه التي تمت الإضاءة عليها من وسائل الاعلام قبل عرضها الا في سياق الاحداث القائمة والعلاقة السيئة بين البلدين، ليبقى الأهم توقيتها الذي يأتي قبل انعقاد قمة العشرين في هامبورغ في 7-8 تموز المقبل، حيث سيجتمع الرئيس الأميركي والروسي لأول مرة منذ انتخاب الرئيس ترامب ما من شأنه جسّ نبض الشارع الأميركي بعد الاستماع لتصريحات بوتين حول واشنطن وما يراه في العلاقة مع الرئيس ترامب مع تكهنات بحفظ الرئيس بوتين مساحة تحفظ السيادة الأميركية، وتنفي تدخل روسيا بكل ما هو مزعوم. وهو الأمر القادر على تقريب بعض وجهات النظر بين الطرفين إذا انفتحت النيات.
الوثائقي يأتي كرسالة حسن نية روسية تهدف الى نسج جسر عبور نحو التقارب مع الادارة الأميركية الجديدة التي نسفت كل جهود ادارة الرئيس باراك اوباما في التقارب مع روسيا والتقدم الحاصل في ذلك الوقت. وهو ما يحمّل الرئيس ترامب مسؤولية كبيرة بحال فشل التوصل لحلول سلمية، لأن الآلة العسكرية لروسيا وحلفائها في كل من العراق وسورية تعمل لصالح موسكو. وهو الأمر الذي يجعل من الدور الأميركي متراجعاً بحال المكابرة وعدم تلقف رسالة بوتين الانفتاحية ليس من قبل الرئيس ترامب فحسب، بل من قبل الحريصين على تماسك المؤسسة الأميركية «المهتزة» ونفوذ واشنطن في الشرق الأوسط مقابل روسيا.
رسائل واضحة من روسيا قبل القمة الكبرى بين الرئيسين في هامبورغ تعبّد الطريق للقاء يؤمل أن يكون «منتجاً» وإلا تصبح الأمور أصعب على ضوء التطورات المفصلية الكبرى في المنطقة بمحاولة روسية، على ما يبدو لمساعدة ترامب في الداخل الأميركي في مواجهة سيل الاتهامات الموجهة له بـ«الخيانة».