استنفد الوقت الذي قدّر فيه لـ«المال» أن يرسم مشاريع المنطقة وقد فشل جذرياً بقدرته على إحداث التغيير المنشود. وهو المال نفسه الذي خُصّص من أجل تصريف صفقات السلاح والعتاد عبر تشكيل جماعات مسلحة قادرة على اقتنائه وتحريك السوق الراكدة، أميركياً ودولياً من جهة، وتمويل المعارك الكبرى القادرة على تغيير الواقع السوري بشكل خاص من جهة أخرى.
لعبة الأموال والحركة الاقتصادية لا تزال حاضرة في سورية عند تلك الدول التي فشلت من دون الإعلان جهاراً ولا حتى إعطاء أهمية لهذا المنطق. فالتخطيط لمكاسب بعيدة المدى في الأرض السورية لا يزال مطروحاً وقدرة الالتفاف السياسي أيضاً هي أحد خيارات الدبلوماسية البناءة في بعض المحطات.
نفسها الدول التي ساهمت في تدمير سورية تتحضّر لإعمارها وتخصّص مؤتمرات دولية من أجل ذلك آخرها مؤتمر بروكسيل في نيسان الماضي، كيف ذلك في ظل وجود السلطة السياسية نفسها حتى الساعة وكيف يمكن الغوص في غمار المغامرة الغربية مجدداً من دون الأخذ بعين الاعتبار مخاطرها؟ جزء من أسئلة مشروعة بعد الحرب الدامية لأكثر من سبع سنوات، قد تزيد..
كل المصادر الأمنية والسياسية أجمعت منذ أشهر على الترويج لفكرة تبني اعتماد لبنان محطة انطلاق كبرى لورشة الإعمار التي ستُحيط به كمدى حيوي لسورية. والغريب أن الفريقين المتنازعَيْن عمودياً فيه يجمعان على ذلك أيضاً. وهو الكلام الذي أكده رئيس الحكومة اللبنانية بنفسه سعد الحريري في أحد إفطارات رمضان عكار ، حيث عبّر عن رغبته في أن يلعب لبنان دوراً مباشراً في إعادة الإعمار، لا أن يكون فقط محطة مرور قائلاً لأهالي عكار «إعادة إعمار سورية التي يرشحكم موقعكم على حدودها لدور أساسي فيها، وإلى افتتاح مطار رينيه معوض في القليعات، الذي سيكون مطار إعادة الإعمار في سورية!».
يدرك الحريري تماماً، ومع استهدافه للنظام خلال كلمته بطبيعة الحال أن ما يطرحه على أهالي عكار هو طرح غير مفصول عن وجود هذا النظام، بعدما خرجت مسألة إسقاطه عن قدرات مانحي الأموال للجهات المقررة سياسياً في المنطقة ويدرك أيضاً أن مسألة إعادة الإعمار بالمنظار الدولي أكانت لجهة الشركات الأجنبية التي تتحضّر للقدوم لسورية او للمؤتمرات الدولية المخصصة لإعادة الإعمار تضع نفسها امام منطق القبول بنتيجة الحرب النهائية التي تضع روسيا شريكاً فيها وتبقي على سورية بشخص الرئيس الأسد جزءٌ لا يتجزأ من المستقبل.
خلط الأوراق لم يعُد ممكناً بالحساب العملي لحساب حلفاء الحريري في سورية، حتى أنه بات مستحيلاً عسكرياً، فالولايات المتحدة تدرك صعوبة الحركة واقتباس المخارج على الطريقة العراقية، منذ حضور القوات الروسية في سورية، وذلك منذ أيلول العام 2015، على الرغم من انتظار بعض المعارك الحدودية التي من المستبعد أن تنتج خريطة عسكرية جديدة خاصة بعد وصول الجيش السوري والحشد الشعبي للحدود العراقية وهي حدود استراتيجية كثيرة الدلالات.
من جهة الرئيس الحريري الذي لم يخف الضائقة المالية التي يعيشها منذ لحظة إعلانه ترشيح العماد عون لرئاسة الجمهورية، فإن سوء الأوضاع لا يزال يحيط بشركاته ويقدم ذيول الماضي المقلقة عليه شعبياً قبل الانتخابات النيابية. فيوم 31 تموز المقبل سيكون آخر أيام عمل شركة «سعودي أوجيه». الأمر الذي استفز الموظفين اللبنانيين الذين يبلغون قرابة الأربعة آلاف موظف لا يعرفون مصيرهم المقبل. شركة «سعودي أوجيه» واحدة من أمثلة التغيير الذي عصف بواقع الحريري المالي الصعب والحديث عن الاتفاقات السياسية الحالية من مسألة التوافق على رئاسة الجمهورية إلى مسألة التوافق على قانون للانتخابات وصولاً الى شركة اتصالات ثالثة مزمع إطلاقها. كلها ملفات واقعة ضمن الصفقات التي من المفترض أن تعوّم الحريري مالياً. وهي صفقات مبنية على تحولات في مواقف تيار المستقبل محلياً سبق الأطراف المتنازعة إقليمياً عليها أو ربما ترجم المستقبل قبل إشاراته.
أزمة الخليج التي قسمت العالم العربي إلى قسم مؤيّد للسعودية وقسم آخر مؤيّد لقطر، وقسمت العالم أيضاً بالطريقة نفسها، ومساعي الدول الساعية لإيجاد مخرج لها تؤكد أن إمكانية الانعطافة أو إعادة التموضع باتجاه موقف مغاير ممكنة بل مقبلة، فالموقف التركي الشديد التطرف تجاه روسيا بمرحلة من المراحل الذي وصل لحدّ استهداف خطوطها الحمر في سورية وقتل طيّاريها على الحدود بات اليوم أقرب منه إلى شبه انعطافة موقف وخيار ثابت بما يتعلّق بتقسيم سورية وإنشاء دولة كردية مرفوضة بالكامل من قبل الروس والأتراك. الأمر الذي قسم الخيار العربي بالشكل الذي تمثله الأزمة الخليجية «السعودية – القطرية» بتهمة التقرّب من إيران ودعم قوى مسلّحة كحماس وحزب الله.
الحريري الذي بدأ ينحو نحو البراغماتية والواقعية البعيدة عن موقف التطرف في بداية الأزمة مع سورية يدرك هذا الأمر تماماً، ويعرف أن سورية أو إعادة الإعمار فيها او التوجه نحوها عبر شركات مباشرة أو غير مباشرة مستقبلاً أو حتى تقديم الموقف إيجاباً متماشياً مع موقف المجتمع الدولي من صورة العملية السياسية النهائية فيها هو أمر ممكن على غرار الانعطافات الإقليمية الجدية نحو المحور الروسي تحت عين ودراية الأميركيين الذين خضعوا لمفهوم الشراكة مع روسيا في الشرق الأوسط أخيراً.