بعدما حشد له النائب وليد جنبلاط ما أمكنه من الطائفة الدرزية لمبايعته في الشوف، انطلق تيمور في جولاته الانتخابية من مجموعة قرى مسيحية محاذية للمختارة في مسرحية فولكلورية شاركه لعب دور البطولة فيها النائب جورج عدوان. فالإعلان الميداني لتحالف القوات والاشتراكيين سبق إعلانَ تحالف التيار الوطني الحر والمستقبل أو المستقبل والاشتراكي أو التيار والقوات
أين النائب غازي العريضي؟ أين زنابقه وشعره وغزله وكل الورود؟ المشاركون في جولة وليّ العهد الجنبلاطي تيمور وليد جنبلاط سمعوا صوت العريضي يحيط بتيمور من جميع الجهات، وزغرداته ترافق خطواته. لكنهم فوجئوا بأن من يرتدي بذلة العريضي ويتحدث بلسانه ليس شاعر البلاط الجنبلاطيّ، بل شاعر البلاط المعرابيّ: فقد ارتدى عضو كتلة القوات اللبنانية النائب جورج عدوان بذلة العريضي ونظارته، وتقدم الموكب الجنبلاطيّ كمن ينثر الأرزّ فوقه ويكرر على مسمعه أبيات التفخيم. يعجز عدوان عن ضبط ساعديه، إذ يجن جنونهما.
يقبّل تيمور ثم يقبّله من جديد ولا يلبث أن يقبّله أيضاً ويخاطبه قائلاً: «تيمور بيك، كما سرنا مع الشيخ وليد جنبلاط في المصالحة، فإننا سنستكمل معك يا أستاذ تيمور جنبلاط بناء المدماك فوق المدماك كي لا تقوى علينا أبواب الجحيم». وإذ تلوح على الوجه الجنبلاطيّ ابتسامة يأخذ عدوان نفساً عميقاً ويعدّ نفسه للمزيد في المحطة التالية: «نحن اتخذنا قراراً، الأستاذ تيمور وأنا وكل الشباب، بأن أولويتنا العيش سوياً بكرامة ومحبة لنحوّل الجبل إلى قدوة لكل اللبنانيين». يخجل النائب نعمة طعمة من نفسه، كيف لا تفيض قريحته هو الآخر بعبارات كهذه تثلج قلب الشاب الجنبلاطي، فيندفع لتحية الناس وتوزيع السلامات، علّ تيمور ينتبه إلى أنه يعرف بعضهم ويعرفونه. ووضع طعمة جيد مقارنة بالنائب إيلي عون الذي لن يهشّ أو ينشّ أياً كانت المناسبة.
أما تيمور نفسه، فأبقى الكوفية التي ألبسه إياها والده في المنزل هذه المرة، وقرر أن ينطلق في جولاته الانتخابية من زيارة القرى المسيحية، التي قُتل العشرات من أبنائها عام 1977، إثر اغتيال كمال جنبلاط. والتذكير بما جرى في آذار من ذلك العام، ليس محاولة لـ«نكء الجراح». فجولة تيمور تحمل عنواناً رسمياً لها، وهو «إجلال الشهداء الأبرياء، الذين سقطوا في 16 آذار عام 1977». وزيارة البيك شملت القرى التي لا تتجاوز نسبة عودة المهجّرين إليها الثلاثين في المئة بفضل الإنماء وشفافية صندوق المهجرين وغيرها من إنجازات والده. وفي ظل خشية بعض الأفرقاء السياسيين من «تسميع» أحد أقرباء الضحايا زائرهم كلاماً لا يعجبه أو يخدش اندفاعته تقرر أن يحل رجال الدين والتجمعات الكنسية والكشفية المضبوطة محل «الجماهير الغفيرة». وهكذا لم يستقبله في باحة كنيسة مار بطرس وبولس للروم الكاثوليك في بلدة بطمة المتاخمة للمختارة غير كاهن الرعية الأب روبير سمعان ولجنة الوقف المسيحي وأعضاء المجلسين البلدي والاختياري، واقتصرت المداخلات على كلمة للأب وكلمة أخرى باسم لجنة الوقف. وفي معاصر الشوف تقدم المستقبلين النائب الأسقفي العام الأرشمندريت نعمان قزحيا الذي ألقى كلمة راعي أبرشية صيدا ودير القمر للروم الملكيين الكاثوليك المطران الياس حداد، وقال فيها إن «قوانين الانتخاب لن تقدم أو تؤخر، لأننا في الشوف لدينا قانون المحبة وضمانته الزعيم وليد جنبلاط والأستاذ تيمور جنبلاط». وفي مزرعة الشوف تكرر المشهد المسرحيّ نفسه، حيث ألقى كاهن رعية مار جرجس المارونية الأب جان عزام الشعر هذه المرة للتعبير عن «فرحتنا الكبيرة بزيارتكم لنا اليوم». ومن دون تشكيك من أحد، أكد عزام أن «هذه اللحمة الموجودة حقيقية وغير مصطنعة وستبقى إلى الأبد». أما كلمات جنبلاط، فلا يمكن من يطالعها سوى تخيله يحفظ الدرس ويسمّعه أمام والده مرات عديدة، قبل أن يأذن له بالخروج من المنزل، ففي أربع محطات (بطمة ثم في معاصر الشوف ومزرعة الشوف والباروك)، كرر العبارات نفسها من دون أية زيادة أو نقصان: «بلدة... تعمدت بالدم». «لنفكر سوياً بالمستقبل لتأمين حياة أفضل للشباب والصبايا في المنطقة». «أعتذر على التأخير على هكذا زيارة». ولما حاول تيمور أن يخرج عن النص المكتوب ويذكر وصية والده له منذ ست سنوات قال شيئاً غير مفهوم ولا معنى له إذ قال إن والده أوصاه غداة تخرجه من جامعته في باريس بالدفاع «عن وجودك والحفاظ على الوجود الدرزي ــ المسيحي في الجبل، فمهما حصل لن يستطيع أحد تغيير أي شيء في لبنان». وهي نصيحة تثير التفاؤل طبعاً، لكن الأهم هو تصديق تيمور وتخيل والده يطير إلى باريس ثم يغمره وهو في ثياب التخرج ويخاطبه قائلاً: «بدي وصيك بالمسيحية والدروز بلبنان»، ثم تقطر بضع دمعات من عينه.
الأهم بعيداً عن زيارة تيمور للقرى التي تنتظر زيارة المدارس وفرص العمل والمشاريع الزراعية والصناعية وشبكات الهاتف والإنترنت هو التآخي الواضح ومعالم التحالف الانتخابي شبه النهائي بين الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية بمعزل عمّا يحصل بين الاشتراكي وتيار المستقبل من جهة، وبين «المستقبل» والتيار الوطني الحر والتيار والقوات من جهة أخرى.
فالمشاركة الاشتراكية الكبيرة في مؤتمر النائب جورج عدوان الإنمائي قبل أسبوعين، ثم تكافل القوات والاشتراكيين (والكتائب) في مقاطعة الاحتفال العوني بافتتاح مشروع سد القيسماني ــ حمّانا، واقتصار المشاركة على القوات اللبنانية في زيارة تيمور أول من أمس لبعض بلدات الشوف، يؤكد أن هناك تنسيقاً في العمل الذي يتخذ طابعاً إنتخابياً. ولا شكّ في هذا السياق أن القوات اللبنانية قد تكون الطرف الأقل تطلباً بالنسبة إلى النائب وليد جنبلاط اليوم، فهي لا تريد أكثر من الحفاظ على مقعد النائب جورج عدوان في الشوف والحلول محل الكتائب في عاليه، فيما العونيون يريدون مقعدي النائبين دوري شمعون ونعمة طعمة ومقعد النائب فؤاد السعد في عاليه. علماً أن حضور الفعاليات الشوفية كان كبيراً في مؤتمر عدوان، فيما تضامن مع الاشتراكيين والقوات في مقاطعة الاحتفاء العونيّ بسد القيسماني 30 من أصل 39 بلدية تستفيد من مياهه، لكن المواكبة الشعبية لزيارة تيمور الأخيرة كانت خجولة جداً. ورغم قرع الأجراس ومهاتفة رجال الدين أبناء رعاياهم واستنفار القوات اللبنانية لم يكن يمكن الحديث عن حشد، ولو صغيراً، بل مجرد حضور خجول.