هكذا ككلّ مرّة أصلُ فيها إلى نقطة اللاعودة وأشعر بأنني محتاجٌ إلى ضوء جديد أقصده في صومعته... راهبٌ اختار أن يعيش وراء كتبِه في عزلةٍ فرَضها على نفسه اختيارياً، لكنّه فيها يدرك عن أحداث وأخبار ومشاكل هذا البلد، أكثرَ ممّا نَعلمه نحن المأخوذين باجتماعات ولقاءات وقراءات وتحليلات ومتابعة للأخبار التي لا تنتهي ولمعلومات تأتينا من كلّ حدبٍ وصوب.
إستقبَلني كعادته باسماً، بعدما أزاح عينيه عن كتاب قديم يعود إلى أواخر القرن الثامن عشر كان غارقاً بفكفكةِ رموزه، بادرَني حينما جلستُ ضاحكاً... مبروك قانون الانتخابات، وأخيراً وُلِد لكم بعد طول معاناة وانتظار ... وأردفَ قائلاً قبل أن أقاطعَه، هو قانون الخطوة إلى الأمام والأربع خطوات راوح مكانك لكي لا أقول إلى الوراء... قلت له نظراً لِما تَحقّقَ، في وصفك بعضٌ من الظلم، أقلّه القانون الجديد قد يساهم في لملمةِ الوضع وفي القضاء على فساد انتخابي وبالتالي سياسي قديم... وربّما يخلّصنا من المحادل وزعمائها ومن يَعمل جاهداً على وراثتهم.
قال أتعلم يا صديقي... لم ولن يصلح لبنان أحد، لن يُقبَض على الفساد فيه، قد يَترك بعض القوانين أو الزعماء بصمات إصلاحية، ولكن هذا الذي تراه وتدعوه فساداً هو طريقة عيش وأسلوب حياة، حلقة مفرَغة ندور في داخلها بين زعماء ينادون بمحاربة الفساد حينما يَسكنون في كنفِ المعارضة ليغضّوا النظر عنها حينما يتربّعون على كراسي السلطة مهما كان نوعها ومستواها... فالزعامة في لبنان ومنذ ما قبلَ تأسيسه تتطلّب مالاً لتستمرّ، في البداية تكون الزعامة طوباوية يؤيّدها الناس لأنّها تُدافع عن قضية حقيقية تقلِق جماعة من الناس أو المجتمع ككلّ، ولكن حينما يُدخلون عليها عوامل الاستمرارية والتوريث تنتقل حكماً إلى الضفّة الأخرى.
الإشكالية ليست في الزعيم بحدّ ذاته وإنّما بعلاقة العائلة والأهل به وبعلاقته بهم. الرئيس فؤاد شهاب نجح في بناء ما يشبه الدولة لأنه لم يكن يحمل عبءَ الأهل والعائلة على كاهله، وكذلك الرئيس الياس سركيس مع الفارق في الظرف والأداء... وأضاف وهو يسكب القهوة: تشبه علاقة الزعيم أو المسؤول بأهله علاقة الراهب بأهله.
الأخير لا ينجح في دعوته إلّا إذا قطع حبل السرّة معهم أو إذا وجَد وظيفة لهم وارتاح من عبئهم، على قول أحد الرهبان القدامى... إنّما المصيبة الكبرى عند الساسة هي حينما يقلّد الوريث الأصيل بأسلوب مزيّف وباهت، وبدلاً من أن يذهب إلى المأسسة يدخل في دوّامة محاولة فرضِ ذاته على الآخرين مستغلّاً صورةَ الأصل ومحاولاً نزعَها من الأذهان في تناقضٍ كبير فيضيع الهدف، ويبدأ التململ...
هنا في هذه المرحلة الدقيقة يَدخل المال على الخط إنْ عبرَ المشاريع أو التلزيمات أو عبر رجال الأعمال أصحاب كلّ العهود... وكون الناس في لبنان لا يمكنهم أن يستغنوا عن غطاء يظنّون أنه يحميهم يتبعون هذا الوافد الجديد ولو بغير اقتناع، إلى أن يَظهر زعيم جديد إثر خضّةٍ أمنية أو سياسية. وهكذا تمرّ علينا الأيام، رتيبةً متشابهة ولو تبدّلَت الأسماء والظروف.
قد يُبدّلُ القانون الجديد بعضاً من الواقع ومن منهجية التفكير المتّبَع، ولكن حصر الصوت التفضيلي في اختيار واحد سيَنتج عنه أمران: الأوّل تنافُس داخل اللوائح، خصوصاً الأساسية منها، إلى حدّ الاقتتال على كلّ صوت، وثانياً فتحُ الباب أمام شراء الأصوات بشكل مباشر وغير مباشر... إضافةً إلى كلّ ذلك من هي المجموعات التي ستقدّم أفكاراً جديدة لأداءٍ مختلف وتستطيع منافسة القوى المخضرمة الموجودة؟
ما يسمّى بقوى المجتمع المدني يحتاجون إلى توحّدٍ وتواضُع وشعارات إيجابية... المعارضات الحزبية المختلفة والنظيفة لديها الكثير لتُقدّمَه، والمجتمعُ في انتظارها شرط ألّا تضيعَ في غياهب النسيان وألّا تغرق في مراقبة أداء أحزابها العقيم... هاتان القوّتان تستطيعان إذا ما أحسَنتا العمل أن تنقلا البلاد إلى مرحلة انتقالية نحن بحاجة إليها للخروج من هذا المستنقع الذي نعيش فيه...
عند وصوله إلى هذه النقطة دخل علينا أحد الزائرين فساد صمت... وانشغلَ الراهب بإهدائي نسخةً عن كتاب «قبل وبعد» للصحافي التائه اسكندر الرياشي، قائلاً لي: إنتبه إلى محتواه من يومها لم يتبدّل الكثير.