كان الجهد الاميركي واضحًا في العمل على إسقاط النظام في سوريا، والمجيء بنظام تابع له، غير معادٍ للكيان الاسرائيلي، بهدف ضرب الحلقة الرئيسة في محور المقاومة، وتشتيته. بالإضافة إلى أهداف عديدة لا مجال لسردها الآن.
ولكن كان لمحور المقاومة رأي آخر، وقد تكون الخبرة المتراكمة في مواجهة الأميركي أدت دورًا معتبرًا في مقاومته وعرقلة مشاريعه وخططه في المنطقة، بدءًا من العام 1983 في بيروت، مرورًا باحتلال أفغانستان والعراق، ومن ثم حرب تموز 2006 وصولًا الى الحرب الكونية في سوريا...
لم يوفّر الأميركيون وسيلة إلا واستخدموها لهزيمة سوريا والمحور الذي تنتمي إليه، ووصلت الأمور الميدانية إلى مراحل خطيرة، وكانوا قريبين من تحقيق هدفهم لولا ثبات الجيش السوري، وقراءة الحلفاء للواقع العسكري والسياسي قراءة صحيحة، ومن ثم التدخل الميداني، والمساعدة الكبيرة من الروس جوًا وبحرًا، ودعمًا سياسيًا، أدى ذلك إلى استعادة المبادرة، مع حجم التضحيات الكبيرة الذي بُذل.
داعش وأخواتها اليد الطولى للأميركي
كان واضحًا دعم الأميركيين لهذه التنظيمات الإرهابية بهدف الوصول الى الهدف المرتجى، وهو إسقاط النظام في سوريا، وهو ما قاله الأميركيون أنفسهم، ولا سيما دعمهم لداعش والنصرة، وهو ما افصح عنه مايكل فلين مستشار الأمن القومي في ادارة الرئيس دونالد ترامب، الذي أُقيل من منصبه مؤخرًا على خلفية علاقته بالروس، يقول فلين الذي كان رئيس الاستخبارات العسكرية في عهد باراك إوباما في العام 2012، بأنّ الأميركيين هم من خلقوا داعش، وهو ما أوضحه نائب الرئيس الاميركي السابق جو بايدن، بأن حلفاء اميركا هم من قدّموا الدعم لداعش، ولم يخرج قائد حلف شمال الأطلسي السابق الجنرال المتقاعد ويسلي كلارك عن هذا السياق، بإعلانه أن واشنطن وحلفاءها هم الذين انشأوا جماعة "داعش" الإرهابية، لمواجهة حزب الله في لبنان، وأضاف: بدأنا بدعم داعش من خلال التمويل من أصدقائنا وحلفائنا وجهّزناه لمحاربة حزب الله".
يضاف الى الغطاء الاميركي، الدعم المفتوح من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة تركيا والسعودية وقطر للجماعات المسلحة الذين أسهموا بشكل كبير ومؤثر في الحرب السورية وفي تدميرها، والذين بدأوا بنشر غسيلهم بعد الخلافات التي نشبت مؤخرًا بين المملكة العربية السعودية ومصر والامارات من جهة، وبين دولة قطر من جهة أخرى، والتي كان أحد أسبابها خسارة المشروع الذي بذلوا الغالي والنفيس لتحقيقه.
بين القصير وحلب
منذ الانتصار الحاسم في معركة القصير، وصولاً الى استعادة مدينة حلب الى احضان الدولة السورية، تغيّر المشهد وتبدّل، وأخذ ينحو منحىً تصاعديًا، ولم يكن هناك مجال للعودة الى الوراء. وبدأت الانتصارات تتوالى، والتنظيمات الإرهابية تتداعى وتتهاوى الى ان وصل الجيش الى الحدود السورية العراقية.
غارات تحذيرية
لم تأتِ غارتا الجيش الأميركي في التنف على رتل للجيش السوري والحلفاء من فراغ، وإنما شكّلتا دلالة واضحة على المأزق الذي يعيشه المحور الغربي على الارض السوريّة، وفي العراق وفي اليمن. وأتى اسقاط الطائرة السورية فوق الرقة ليخدم الهدف ذاته، لكن كيف كان الرد؟.
شكّل حضور الصواريخ الايرانية الاستراتيجية البعيدة المدى، ردًا يحمل أكثر من رسالة وفي غير اتجاه، أحدها موجه الى الأميركي، ومن خلاله الى حلفائه، والى من يهمه الأمر، من ان تخطي الخطوط الحمر، المرسومة، سيؤدي الى التوتر، وأنّ تكرار هذه الاعتداءات سيؤدي ربما الى المواجهة المباشرة، وأنّ الخيار الذي اتخذه حلفاء سوريا في الوصول الى الحدود السورية العراقية من الجانبين، وإعادة وصل ما انقطع منذ احتلال الجماعات المسلّحة للحدود، هو خيار استراتيجي، ودونه بذل الدماء. أضف الى ذلك ارتفاع اللهجة والدعم الروسي لهذا الموقف، عبر التحذير من خلال اعتبار كل جسم طائر فوق الاجواء السورية كهدف معادٍ، وسيُعامل على هذا الأساس، وهو تذكير بهذه المعادلة التي تمنع العودة الى الوراء.
ما هي خيارات الأميركي؟
من الواضح أنّ الأميركيين لم تكن لديهم، لا النية ولا الخطط للتدخل المباشر في سوريا، وكانوا يعتمدون بشكل كبير على حلفائهم في المعركة، من دول وجماعات إرهابية، وحتى الاسرائيلي في مفاصل كثيرة، وكان القرار متخذًا من الادارة الاميركية ومن البنتاغون منذ بداية ولاية باراك اوباما الاولى في العام 2009 هو عدم العودة بشكل مباشر الى الغرق في رمال الشرق الأوسط المتحركة مرة أخرى بعد الهزيمة الواضحة في العراق وأفغانستان.
لذا أصبحت خياراته محدودة عسكريًا، فهو لا حضور له كقوات عسكرية بشرية وازنة في سوريا، والعشرة الآف مقاتل الذين دربهم وكلّفوه ما يقارب الـ500 مليون دولار، لم يبق منهم سوى أربعة أو خمسة مقاتلين، والاعتماد على داعش والنصرة أخفق، وإصبح الدفاع عنهم مؤذيًا ويصبّ في مصلحة سوريا ومن معها، وإنّ أي تدخل عسكري مباشر بمواجهة الجيش السوري والحلفاء سيواجه برد مباشر أو غير مباشر. وسيفتح الابواب على احتمال الصدام مع الروسي والإيراني والمقاومة، وهو ما لا يريده الأميركي، لأنّ أي تدخل في الحرب السورية لا يُسقِط النظامَ ويهزمُ الجيشَ السوري والحلفاء، لا قيمة عملية له. فعلى سبيل المثال، هل سيتدخل الجيش الاميركي بعشرات الاف الجنود لإعادة احتلال حلب، او احتلال دمشق وحمص وغيرها؟ هذه فرضية ساقطة عقليًا؟.
يبقى اعتماد الأميركي حاليًا على العنصر الكردي، ولا سيما قوات سوريا الديمقراطية، وذلك لن يغيّر في المعادلة كثيرًا، والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو، هل تستطيع هذه القوات مواجهة حلف عريض، بعد التخلص من عبء داعش، كما قال روبرت فورد في مقابلته الاخيرة مع الشرق الأوسط،. عندما سُئل: وهل انّ الأميركيين سيدافعون عن الأكراد بمواجهة قوات الرئيس السوري بشّار الأسد؟ أجاب بصريح العبارة بـ"لا" وقال إنّ الأميركيين يستخدمون الكرد لتحرير الرقة من "داعش" فقط. وإنّ الأكراد سيدفعون غالياً ثمن ثقتهم بالأميركيين، وإن الجيش الأميركي يستخدمهم فقط لقتال "داعش" ولن يستعمل القوة للدفاع عنهم ضد قوات النظام السوري أو إيران وتركيا. وقال: "ما نفعله مع الأكراد غير أخلاقي وخطأ سياسي".
أما باقي الفصائل، ولا سيما جبهة النصرة والفصائل المدعومة من الأتراك والسعوديين والقطريين فهي مشتتة في غير بقعة، وغير قادرة على استعادة المبادرة.
في مقابلته مع صحيفة الشرق الأوسط السعودية أدلى السفير الأميركي في سوريا روبرت فورد في بداية الحرب الى العام 2014، مع صحيفة الشرق باعتراف واضح لا لبس فيه بهزيمة المشروع الأميركي في سوريا، عندما انهى المقابلة في جملة مفتاحية صريحة قائلًا: "اللعبة انتهت" ولكنه لم يصرّح عن المسكوت عنه في مقابلته وهي عبارة " خسرنا الحرب"...
أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية*