لا يخفى على أحد أنّ "تيار المستقبل" التحق سريعًا، ولو بشكلٍ غير مباشر، بالتفاهم بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" بعيد إعلانه، بل ذهب في بعض الأحيان لحدّ تغليب مصلحة الثنائي المسيحي على حساب تحالفاته التقليدية ومصالحه الخاصّة، وخير دليلٍ على ذلك التوتر غير المسبوق الذي طرأ على علاقته مع كلّ من "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"حزب الكتائب" وسواهما.
بدأ الحريري يحصد الثمار التي أرادها من سياسته هذه، فرئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية جبران باسيل أعلن أنّ التحالف مع "المستقبل" سيترجم في الانتخابات، ورئيس "القوات" سمير جعجع، الطامح لإعادة إحياء "14 آذار"، أكد مثل هذا التحالف، ولو اشترط ذلك ببقاء رئيس الحكومة سعد الحريري "عاقلاً"، على حدّ تعبيره.
ولكن، ماذا لو لم يتّفق "التيار" و"القوات" انتخابيًا، وهو احتمالٌ أكثر من وارد، في ضوء شكل القانون الانتخابي وتعقيداته، فضلاً عن التباينات التي بدأت في الظهور بينهما؟ أيّ موقفٍ سيتّخذ "المستقبل" عندها، وإلى جانب من سيصطفّ؟!
عصافير في حجر...
يوم بدأ رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري "يغرّد" بما ينسجم مع توجّهات التحالف المسيحيّ، متوّجًا ذلك بانتخاب أحد أبرز "خصومه" منذ دخوله معترك السياسة بعيد اغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في العام 2005، أي العماد ميشال عون، رئيسًا للجمهورية، وُجّهت له الكثير من الانتقادات على خلفيّة ما سُمّيت بالتنازلات التي قدّمها الرجل، والتي بدت غير مفهومة في شارعه قبل غيره، وذهب البعض لحدّ توصيفها بـ"الانقلاب على الذات"، بمعنى أنّ السياسة "الحريريّة" الجديدة حملت بين طيّاتها "انقلاباً كاملاً" على السياسة "الحريريّة" المستمرّة منذ العام 2005.
وإذا كان صحيحًا أنّ مثل هذا "الانقلاب" سابقٌ للتفاهم بين "التيار" و"القوات"، بل إنّ الحريري قد يكون من "حفّز" قيام هذا التحالف عندما تخلّى عن ترشيح "حليفه" رئيس حزب "القوات" سمير جعجع للرئاسة، متبنيًا في المقابل ترشيح رئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية، إلا أنّ الصحيح أيضاً أنّ الرجل عرف كيف يعيد "دوزنة" سياسته، بتصنيف نفسه "صديقاً" للتفاهم، الذي أرسى معادلاتٍ جديدةٍ في المشهد السياسي، ليضرب بذلك سلسلة عصافير بحجرٍ واحد.
وفي هذا السياق، بات واضحًا أنّ الحريري، الذي كان ولا يزال يمرّ بأزماتٍ متعدّدة ومتفرّعة مالية وشعبية وسياسية في آنٍ واحد، كان يدرك في قرارة نفسه أنّ لا حلّ مُتاحًا أمامه سوى بالعودة إلى السراي الحكومي في أسرع وقت، ومهما كان الثمن، لعلّه يستعيد بذلك بعضًا من الشعبية التي فقدها، ويعوّض ما فاته خلال سنوات "الغربة القسريّة". وبالفعل، كان للحريري ما أراد، حيث سُمّي رئيسًا للحكومة بشبه إجماعٍ، وعاد إلى "جنّة الحكم"، بتسهيلاتٍ فائقة وغير مسبوقة، تمامًا كما تبنّى.
لكن، وأبعد من هذا الهدف الآني، لا شكّ أنّ الحريري قارب انضواءه في لواء التفاهم المسيحي من منظارٍ آخر، بعيد المدى بطبيعة الحال، وخير دليلٍ على ذلك أنّ "شهر العسل" بينه وبين خصومه السابقين لم ينتهِ عمليًا بوصوله إلى السراي الحكومي، بل إنّه بات يشكّل مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون فريق عمل أكثر من متجانس، لدرجة أنّ الحريري لا يتردّد في لعب دور "الوسيط" بين الرئيس عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري كلما اهتزّت العلاقة بينهما، أو طرأ عليها سوء تفاهم، وهو ما يتكرّر باستمرار.
الأولوية لـ"التيار"؟
وفي حين يمكن تسجيل نجاح الحريري في إزالة كلّ رواسب مقولة "الإبراء المستحيل" الشهيرة في إطار "المكاسب" التي حقّقها، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ المحرّك الأساس بالنسبة له كان "انتخابيًا"، لاعتقاده، كما كثيرين، أنّ "التحالف المسيحي" سيكتسح المشهد، ولن يترك مجال تمثيلٍ ليس للمستقلين فحسب، بل حتى للأحزاب الأخرى الأقلّ تمثيلاً، وعلى رأسها "الكتائب" و"المردة"، وهي مقولة لعب التحالف كثيرًا على وترها لشدّ العصب. وبالتالي، رأى الحريري أن اصطفافه إلى جانب هذا التحالف لن يضمن له العودة إلى السراي بعد الانتخابات فحسب، بل أيضًا الفوز بتأييد كتلةٍ نيابيّة واسعة، خصوصًا أنّ كتلته كانت مهدّدة بخسارة العديد من مقاعدها.
لكن، يبدو أنّ هذه المقاربة بحدّ ذاتها باتت بحاجة لإعادة نظر، خصوصًا بعد التغييرات التي طرأت على قانون الانتخاب، والمعادلات الجديدة التي أحدثها دخول النظام النسبي، ولو بصورةٍ مشوّهة، إلى النظام الانتخابي للمرّة الأولى في تاريخ لبنان. ولعلّ التغيير الأبرز على هذا الصعيد أنّ التحالف الانتخابيّ بين "التيار" و"القوات" بات مهدَّدًا ولم يعد محسومًا، لأنّ المصلحة "الفائقة" من اعتماده وفق النظام الأكثري تنتفي في الكثير من الدوائر، إن لم يكن في معظمها، وفق النظام النسبي، وهو ما بدأ المعنيّون في "التيار" و"القوات" على حدٍ سواء بالتلميح إليه، خصوصًا لجهة الحديث عن "تحالفات على القطعة" ستحصل، بمعنى أنّ لكلّ دائرةٍ تحالفاتها، التي قد تلتقي أو تتقاطع مع دوائر أخرى وقد لا تفعل.
بمعنى آخر، فإنّ "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" قد يخوضان المعارك في وجه بعضهما البعض، وهنا قد يكون على "تيار المستقبل" الاختيار فيما بينهما، خصوصًا في المناطق التي لديه حضورٌ وازنٌ فيها، كما هو الحال في دوائر بيروت، زحلة، وصيدا – جزين، وغيرها. وتمامًا كما أنّ الصورة الانتخابية لا تزال غامضة بشكلٍ عام، والتحالفات غير واضحة على الإطلاق، فإنّ موقف "المستقبل"، الذي لا يُحسَد عليه، يبدو "رماديًا" في هذه الحالة "الافتراضية"، وإن أوحت بعض المؤشّرات بأنّ أولويته ستكون لـ"التيار" لا "القوات"، ولو كان البعض يرى أنّ الحريري يبحث عن "ضمانات" للبقاء رئيسًا لحكومة ما بعد الانتخابات أكثر من اهتمامه بالتحالفات التي سينسجها هنا أو هناك، وبحجم الكتلة التي سيفوز بها بموجب ذلك.
ولعلّ قول جعجع للحريري أنّ التحالف معه مشروطٌ بـ"أن يبقى عاقلاً"، وهو ما لا يمكن النظر إليه بـ"براءةٍ مطلقة" لا وجود لها في السياسة على أنّه مجرّد "دعابة"، كافٍ للدلالة على وجود مثل هذا التوجّه، علمًا أنّ البعض ذهب بعيدًا في الحديث عن مفاوضاتٍ قائمة بين "المستقبل" و"التيار"، لحدّ الحديث عن تركيب اللوائح والدخول في بازار الأسماء، كأن يُقال مثلاً أنّ ضغوطًا بدأت تُمارَس على "المستقبل" لإدراج النائب السابق أسامة سعد على اللائحة المشتركة في صيدا وجزين، مع ما يعنيه ذلك من تخلٍ عن رئيس الكتلة "الزرقاء" فؤاد السنيورة، مقابل تمثيل "مسيحيي التيار"، الذين يرفض الحريري التخلي عنهم بالمطلق، في مناطق أخرى.
خلط جديد للأوراق
تمامًا كما خلطت الانتخابات الرئاسيّة كلّ الأوراق، وأنهت الانقسام العمودي بين قوى الثامن والرابع عشر من آذار، يبدو أنّ قانون الانتخاب بدأ بإعادة خلطٍ جديدةٍ للأوراق، قد تساهم بإعادة النظر بالكثير من التحالفات المستجدّة، التي اعتقد "طبّاخوها" أنّها بطاقة العبور "المضمونة" نحو المرحلة السياسية الجديدة.
ومن الآن وحتى تتّضح الصورة الانتخابيّة، هذا إن اتّضحت وإن تمّت الانتخابات في وقتها وفق القانون الجديد، يبدو أنّ الثابت الوحيد أنّ الخارطة السياسية، بتحالفاتها القديمة والجديدة وما بينهما، ستكون عرضةً للكثير من الاهتزازات، وربما الانقلابات...