لم تكن الساعة قد بلغت الخامسة والنصف فجراً بعد. دخلت دورية من فوج المجوقل إلى مخيم النور للنازحين، عند أطراف بلدة عرسال، بحثاً عن أحزمة ناسفة وإرهابيين. المعلومات الاستخبارية كانت تفيد بأنّ هجوماً انتحارياً يُعدّ له في المخيم، الذي كان يُعرف سابقاً باسم «مخيم أبو طاقية»، تمهيداً لتنفيذ عملية انتحارية في العمق اللبناني. ولم يكن لتوقيف أحمد خالد دياب، أحد مسؤولي جبهة النصرة في القلمون، أول من أمس، أي علاقة بالعملية الأمنية أمس، بعكس ما جرى التداول به في وسائل الإعلام.
كذلك لا صحة للمعلومات التي تردّدت عن أنه قاتل العقيد نور الدين الجمل. المعلومات المتوافرة، بحسب المصادر الأمنية المتابعة للهجوم، تحدثت عن «طبخ» أحزمة ناسفة وإعداد عبوات متفجرة استعداداً لسلسلة تفجيرات. ولم تكد تبدأ عملية التفتيش حتى فجّر انتحاري نفسه وسط عناصر فوج المجوقل، فأصيب ثلاثة عناصر إصابات حرجة في وجوههم. الانتحاري بحسب المصادر الأمنية من عناصر تنظيم «جبهة النصرة». أُتبِع التفجير الانتحاري بإلقاء أحد الإرهابيين قنبلة على العناصر العسكريين، ما أدى إلى سقوط جرحى. حوصر المخيم، لتبدأ التوقيفات بالتزامن مع حصار مخيم قارية ودهمه (نسبة إلى بلدة قارة السورية التي يعود معظم النازحين المقيمين في المخيم إليها).
وقعُ الهجوم في المخيم الثاني كان أكبر. ثلاثة انتحاريين ينتمون إلى تنظيم «داعش» فجّروا أنفسهم تباعاً، وترافقت التفجيرات الانتحارية مع تفجير ثلاث عبوات ناسفة. وقد فجّر انتحاريان نفسيهما من دون سقوط أي إصابات في صفوف الجيش، بينما تمترس انتحاري ثالث في إحدى الخيم، متّخذاً من عائلة نازحة دروعاً بشرية. هدّد الانتحاري الثالث بتفجير نفسه بأفراد العائلة إن لم تنسحب القوة المداهمة، ثم بدأت مفاوضات تمكن خلالها عناصر الجيش من إقناعه بترك معظم أفراد العائلة، قبل أن يفجّر نفسه في آخر المطاف ويقتل طفلة. لم يكن انفجار الانتحاريين الأربعة خلال ساعات الصباح الأولى صادماً. لكن هول الخبر أعاد إلى الأذهان صور انتحاريي الفجر الخمسة في بلدة القاع قبل عام كامل. وكانت لدى القيادة العسكرية معلومات استخبارية عن مخطط تفجيري وعمليات أمنية ضخمة يستعد لتنفيذها كلّ من تنظيمي «جبهة النصرة» و«داعش»، كلٌّ على حدة في الداخل اللبناني. حتى إن كمية المتفجرات التي جرت مصادرتها تؤكد ذلك. عقب العملية الأمنية، نفذ الجيش عمليات توقيف كبيرة كانت حصيلتها قرابة 400 موقوف. وذكرت المصادر الامنية أن التحقيق الميداني الأوّلي بيّن أن عدداً من موقوفي مخيم القارية هم من عناصر «داعش»، مشيرة إلى أن بينهم قياديين.
على الرغم من أن الجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية باتوا يمتلكون القدرة على المباغتة، ونجحوا في الآونة الأخيرة في ضرب الخلايا الإرهابية وكشفها قبل تنفيذ مخططاتها، إلّا أن المقبل من الأيام يؤشّر إلى تصاعد في الأعمال الإرهابية على مستوى المنطقة. فقرار التنظيمات الإرهابية بضرب الجيش والداخل اللبناني قائم، وهذا أمر يرتبط بالقرار الذي بدأ يتبلور بحسم الحرب على تنظيمي «داعش» و«النصرة» على مستوى إقليمي ودولي، وهزائم تلك الجماعات في الميدانين السوري والعراقي. ولا شكّ في أن الخلايا النائمة للتنظيمين تشعر بالضيق وبضرورة فتح جبهات أمنية جديدة تخفّف الحصار الذي يشتدّ عليها من إدلب إلى البادية السورية والغرب العراقي.
ويمكن القول إن أي تسوية في جرود عرسال لن تكون حالياً لمصلحة «النصرة» أو «داعش»، وكذلك استمرار عملية التفاوض لعودة النازحين السوريين إلى قراهم. فبالنسبة إلى مقاتلي «داعش»، لا مكان متاح للخروج من جرود عرسال. ومع أن الأمر يختلف بالنسبة إلى «النصرة» التي تملك خياراً محدوداً بإمكانية الخروج إلى إدلب، إلّا أن هذا الأمر لم يعد مشجّعاً الآن، في ظلّ ما يجري تداوله عن إمكان تفاهم روسي ــ تركي ــ إيراني على تحييد «النصرة» في المحافظة السورية الشمالية، وكون أمير «الجبهة» في عرسال المدعو أبو مالك التلّي سيخسر حتماً امتيازاته التي حصل عليها في عرسال، ما إن يخرج إلى إدلب، حيث يحكم «الإمارة» أمراء أشدّ قوّة وبطشاً منه. كذلك فإن عملية تسوية إخراج المسلحين من عرسال ترتبط بضرورة التنسيق الرسمي اللبناني مع الحكومة السورية، التي لا تنوي تقديم مخارج خلاص للحكومة اللبنانية من دون اتصال رسمي، طالما أن أطرافاً لبنانية انخرطت باكراً في الحرب ضد الحكومة السورية، وشجّعت السوريين على النزوح إلى لبنان وإلى عرسال تحديداً.
ورغم الإنجاز الذي تحقق أمس بالعملية الاستباقية التي أنقذت لبنان، إلا أن عسكريي الجيش والنازح السوري كانا ضحية في آن واحد. وتتحمّل الطبقة السياسية اللبنانية مسؤولية زج الجيش في هذه المسألة، ما دامت هذه المخيمات قد تحولت الى بيئة حاضنة للإرهابيين والانتحاريين ولتصنيع الأحزمة الناسفة. أما الحل لإنهاء معاناة عسكريي الجيش والنازحين في المخيمات فطريقه واحد: فتح باب المفاوضات بشكل رسمي مع الدولة السورية لإعادة جميع النازحين إلى بلداتهم. وفيما تتمسّك السلطة اللبنانية بقنبلة النازحين، كانت الأمم المتحدة أمس تُعلن عودة نحو 500 ألف نازح سوري إلى منازلهم في الأشهر الأخيرة، غالبيتهم من داخل سوريا، ونحو 10 في المئة منهم من خارجها. ويعني الإعلان الأممي أن الدولة السورية مستعدة لتسهيل عودة النازحين إلى بلادهم، فيما الدولة اللبنانية مصرّة على إبقائهم في لبنان، مع كل ما يعنيه ذلك من أوضاع إنسانية مأسوية يعيش فيها غالبيتهم، ومن مخاطر أمنية تتهدّد البلاد برمتها.