تختصر التطورات الحالية على جبهات الجنوب السوري مسارات الحرب، السياسية والميدانية، والصراع المحتدم على مناطق النفوذ بين غالبية القوى المنخرطة في الصراع على الأرض السورية.
وليس خافياً أن الانخراط العسكري الأميركي المباشر في الجنوب ووجود مستشارين أميركيين وبريطانيين على الحدود السورية ــ الأردنية، زاد المشهد تعقيداً، من دون أن يغيّر في موازين القوى، ولا سيّما بعد النجاح الذي حقّقته قوات الجيش السوري وحلفائه، بالالتفاف حول الخطوط الأميركية «الحمراء» التي رسمتها واشنطن في منطقة التنف في المثلث الأردني ــ السوري ــ العراقي، وتمكن القوات من الوصول إلى الحدود العراقية، تحت أعين أجهزة الرصد والتعقب الأميركية. وبدا التسليم الأميركي بوجود الجيش وحلفائه على الحدود العراقية، مؤشّراً على خضوع واشنطن للأمر الواقع، والقبول بالجيش وحلفائه شركاء في «مكافحة الإرهاب». إلّا أن هذا التسليم، بقدر ما يطمئن السوريين يقلقهم، من احتمالات «الجنون» الأميركي باستهدافات جديدة لمواقع أو مطارات، بعد أن فقدت واشنطن دور اليد الطولى في تحديد مسارات الحرب، أمام الدور الروسي الكبير والعناد الإيراني واندفاعة الجيش للسيطرة على مساحات هائلة من جغرافيا البادية.
ويدور على أرض الجنوب، من البادية الشرقية إلى السويداء ودرعا والقنيطرة، كباش ميداني ــ سياسي كبير، يُرسم معه مستقبل التسوية السياسية والحرب على تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة». فضلاً عن احتمالات انتشار قوات روسية على نطاق واسع في الجنوب والجولان، لرعاية التسوية السورية في «مناطق تخفيف النزاع»، ومستقبلاً لبحث مسألة الاحتلال الإسرائيلي للجولان المحتلّ.
ويصف مصدر أمني سوري رفيع المستوى المرحلة الحالية في الجنوب بـ«مرحلة تقليم الحصص وإسقاط مشروع التقسيم»، مؤكّداً أن «صمود الجيش وحاضنته الشعبية خصوصاً في المناطق التي تخضع لسيطرة الجماعات المسلحة، منع توسّع سيطرة المسلحين وأجبر الدول الداعمة للإرهاب على التراجع خطوات إلى الخلف، والبحث عن مخارج لإعادة التواصل مع الدولة السورية».
الأردن وفصائل الجنوب المتناحرة
على مدى السنوات الماضية، فشلت الدول المعادية لسوريا في توحيد فصائل الجنوب ضمن مشروع موحّد. فتعدّد مصادر التمويل بين قطر والسعودية وغرفة «الموك» ثم دخول «البنتاغون» والـ«CIA» لاحقاً على خطّ التمويل وصولاً إلى الدور الاسرائيلي، ثم توسّع نفوذ «جبهة النصرة»، قلّص إمكانية قيام مشروع موحّد تقاتل الفصائل المسلحة تحته. وبينما كانت غرف العمليات تجمع الفصائل على قتال الجيش السوري، كانت الفصائل تعود للتقاتل ما إن تخفت حدة المعارك مع الجيش، على النفوذ وتوزيع الغنائم وتقاذف تهم التخاذل وتحميل مسؤوليات الفشل. وهذا التخبّط، الذي ساد طوال السنوات الماضية، بات اليوم أزمة مستفحلة بالنسبة إلى الدول الراعية للمسلحين في الجنوب، ولا سيّما الأردن والسعودية وقطر وأميركا، بحيث فشل أكثر من 50 فصيلاً في تقديم نموذج يصلح لخلافة دور «النصرة» العسكري في الجنوب، كما لتنظيم «داعش» الذي يسيطر على منطقة حوض اليرموك، تحت مسمّى «جيش خالد بن الوليد»، وتالياً في تكوين جهة سياسية وازنة يمكن أن تمثّل شريكاً للدولة السورية لتحقيق تسوية سياسية.
وأخيراً، لجأ الأردن إلى قطع التمويل عن مسلحي الجنوب، وبدل ذلك رفد الفصائل العاملة تحت رعايته في مثلث التنف بالدعم والأموال والسلاح، في ظلّ انكفاء هذه الميليشيات أمام تقدّم الجيش في البادية، على الرغم من الغطاء الجوي الأميركي، الذي استهدف الجيش وحلفاءه بغارات جويّة ثلاث مرّات دعماً لهذه الميليشيات. ويمكن القول إن الأردن أيضاً فشل في استمالة العشائر البدوية القاطنة في بادية السويداء الشرقية، وبينما كان يعوّل على دورها في قتال «داعش» وفرض أمر واقع على الجيش في السيطرة على البادية الشرقية، تبيّن للأردن عمق العلاقة التي تربط العشائر بالدولة السورية، وصعوبة تأليبها عليها، ما أفقد الأردن عنصراً ميدانياً وشعبياً مهمّاً في لعبة النفوذ في البادية. كذلك يجري الحديث اليوم في الأوساط العسكرية السورية، عن خطّة جديدة للجيش لتضييق الخناق أكثر على جماعات «جيش ثوار العشائر» و«أسود الشرقية»، عبر عملية عسكرية ثلاثية الأضلع من شرق السويداء ومنطقة بئر القصب باتجاه اللسان الذي تسيطر عليه هذه الجماعات. وفيما كان الأردن قبل نحو شهرين يهدّد بتدخل مباشر في الجنوب السوري وفي حوض اليرموك والحديث عن مدّ نفوذه صوب السويداء، بعد تحريض إسرائيلي حثيث بحجّة منع وجود إيران وحزب الله في الجنوب، سقطت الذرائع الإسرائيلية الأردنية أمام فشل المسلحين المدعومين من الأردن في تحقيق القوّة المطلوبة للتدخّل. وانتقل الأردن بوساطة روسية إلى التعبير عن رغبته في عودة سيطرة الجيش السوري على معبر نصيب الحدودي بين البلدين لإعادة وصل شريان اقتصادي بري شديد الأهمية بالنسبة إلى الأردن، ولا سيّما خلال اللقاءات المستمرة بين المستشارين الروس والأردنيين وبين الروس وبعض فصائل المعارضة المسلحة في عمان منذ أسابيع. إلّا أن مسألة التدخل الأردني ــ الأميركي في حوض اليرموك، تبقى رهناً بالإرادة السياسية الأميركية، في ظلّ التهديدات المستمرة لسوريا، والانقسام الكبير داخل الإدارة الأميركية الحالية تجاه التعامل مع الجيش السوري، ومخاطر الانخراط المباشر في الجنوب لتحقيق منطقة نفوذ أميركية ــ أردنية مباشرة.
وينعكس الصراع بين الفصائل المسلحة أيضاً، على المشاركة في مؤتمر أستانا المنعقد بداية الشهر المقبل في العاصمة الكازاخية. وقبل يومين، أعلن ما لا يقل عن عشرين فصيلاً، مقاطعة المؤتمر بحجج متعدّدة، لكن مصادر متابعة أكّدت لـ«الأخبار» أن السبب المباشر هو وقف الدعم الأردني لهذه الفصائل، والصراعات المحتدمة بين السعودية وقطر، في ظلّ تأثير كبير تملكه الأخيرتان على عددٍ من الفصائل في الجنوب.
«النصرة» في المنشية ومدينة البعث
تخوض «جبهة النصرة» وبعض الفصائل معركة مفتوحة ضد الجيش السوري في حي المنشية في مدينة درعا منذ أكثر من ثلاثة أشهر، من دون تحقيق أي تقدّم يذكر.
وقبل أيام، فتحت «النصرة» معركة ضد الجيش في مدينة البعث في القنيطرة بهدف السيطرة على المدينة، وتالياً مدينة خان أرنبة، وهما المدينتان اللتان تضمّان العدد الأكبر من القاطنين في القنيطرة قرب حدود الجولان المحتلّ. وعلى الرغم من مشاغلة الجيش في المعركتين، إلّا أن أكثر من مصدر أكد أن الخسائر التي منيت بها «النصرة» خلال الشهرين الماضيين وفي معركة مدينة البعث، أثّرت إلى حدٍ كبير في قدرتها على خوض معارك مستقبلية، خصوصاً في ظلّ القتال على أكثر من جبهة ضد الجيش وضد «داعش». وبدت المعارك بالنسبة إلى أكثر من مصدر عسكري، «مهلكة» للتنظيم «القاعديّ»، على غرار المعارك التي تورّط بها في ريف حماه الشمالي قبل نحو شهرين، فيما بقيت الفصائل الأخرى على الحياد. ويقول المصدر الأمني المعني، إن «الفصائل المحسوبة على الأردن تورّطت في المعركة حتى لا تقطف النصرة ثمار نجاحات محتملة، إلّا أن النصرة تتكبّد وحدها نتيجة الفشل، في ما يشير إلى أن الأمر عملية تصفية للنصرة كتلك الجارية على بقاع أخرى في سوريا». من جهة ثانية، لا يغيب التأثير القطري عن تحرّك «النصرة» الأخير، وحاجة الإمارة المحاصرة من قبل دول مجلس التعاون الخليجي، إلى إثبات سيطرتها على بعض الفصائل على الأرض، ولاحقاً للمساومة عليها، ولا سيّما «جبهة النصرة». ولو نجح هجوم «النصرة» في إسقاط مدينة البعث، لكانت إسرائيل هي المستفيد الأوّل، بحيث تتوسّع «المنطقة العازلة» الإسرائيلية على حدود الجولان المحتل، الممتدّة من بيت جن على سفوح جبل الشيخ، وصولاً إلى مدينة الرفيد في جنوب القنيطرة. إلّا أن دفاعات الجيش السوري، التي نجحت في امتصاص اندفاعة المسلحين في حي المنشية، نجحت أيضاً في امتصاص هجومات «النصرة» في مدينة البعث، مكبّدة الأخيرة خسائر فادحة في الأرواح والعتاد. وتقول مصادر دبلوماسية لـ«الأخبار» إن «الهدف من فتح معركة مدينة البعث قبل أيام من مؤتمر أستانا وتثبيت مناطق تخفيف التوتر، هو تقديم أوراق اعتماد للمفاوضات من دول مشاركة في المؤتمر، ولقطع الطريق على عمليات الجيش السوري الذي كان يعدّ لاستعادة بعض الجيوب على حدود الجولان».
وبدا لافتاً في الأسابيع الأخيرة، الحرص الإسرائيلي على الكشف عن علاقة الكيان مع الجماعات المسلحة في القنيطرة، في خطوة تتناسب مع علنية التنسيق الإسرائيلي ــ السعودي بحجّة مواجهة إيران، وانطلاق عجلة التطبيع العلنية بين الطرفين، بالتوازي مع ارتفاع منسوب التواصل السياسي العلني لبعض شخصيات المعارضة السورية مع إسرائيل، واندفاعة إسرائيل إلى تظهير هذا التنسيق والتواصل.
بعد 6 سنوات على اندلاع الحرب السورية من محافظة درعا، تبدو الدولة السورية وحلفاؤها الجهة الوحيدة التي تملك استراتيجية واضحة لاستعادة سيطرتها على كامل الجنوب، مدعومة بأوراق قوة ميدانية وشعبية، في ظلّ غياب الاستراتيجية لدى الأطراف الأخرى، ولا سيّما الإدارة الأميركية الجديدة. وإن كانت الدولة السورية تقبل بالتسويات، إلّا أن أكثر من مصدر معني يؤكّد لـ«الأخبار» أن «أي تسوية في الجنوب، لا يمكن أن تمرّ، إلّا إذا كانت تضمن إدارة الدولة لمناطق الجنوب لاحقاً، بمعزلٍ عن شكل هذه الإدارة».
كما كان متوقّعاً (انظر «الأخبار» العدد ٣١٥٥) ، شنّ «جيش خالد بن الوليد» في حوض اليرموك قبل أيام، هجوماً على بلدة حيط جنوب غرب درعا. إلّا أن «الجيش» المرتبط بـ«داعش» فشل في السيطرة على البلدة، ودفع بدل ذلك خسائر بشرية كبيرة في مقابل خسائر محدودة للفصائل. وأتى هجوم «داعش» ومحاولاته التوسعيّة انطلاقاً من الحوض، بعد غارة «مجهولة الهويّة» استهدفت قيادات الصفّ الأوّل في التنظيم قبل نحو أسبوعين، بقصف مبنى «المحكمة الشرعية» في بلدة الشجرة، وهو مبنى قديم من طبقتين كان يتبع لمؤسسة الكهرباء.
وبحسب المصادر، اخترق صاروخ سطح الطبقة الثانية لينفجر في الطبقة الأولى من المبنى، مسبباً أضراراً في الطبقة الأولى فحسب، ما يشير إلى تقنية عالية في السلاح المستخدم ودقة في المعلومات. وفيما أعلن التنظيم مقتل أميره أبو محمد المقدسي، أكّدت المصادر أن أميراً جديداً قتل أيضاً في الاجتماع، كان قد حضر لتسلّم القيادة، آتياً من منطقة دير الزور، أردني الجنسية، بالإضافة إلى مجموعة من مقاتلي التنظيم من الدير ومن مدينة أنخل في درعا حضروا قبل نحو شهرٍ إلى الحوض.
وفيما ذكرت مواقع إعلامية أن التحالف الدولي هو من قام بالغارة، لم يعلن التحالف حتى الآن مسؤوليته عن الأمر، فيما تؤكّد مصادر أمنية في الجنوب السوري أن الغارة ليست من التحالف الدولي، بل من طائرة إسرائيلية.
وفي ظلّ غياب التبني الرسمي، تظهر ترجيحات أخرى أن طائرات أردنية نفذت الغارة من خارج سياق التحالف الدولي. وبعد ظهر يوم الأربعاء الماضي، استهدفت غارة أخرى اجتماعاً قيادياً للتنظيم في بلدة جليّن في الحوض، وقُتل فيها الأمير الجديد المدعو محمد رفعات الرفاعي (أبو هاشم العسكري)، وهو من بلدة تل شهاب الحدودية مع الأردن، وقُتلت غالبية قيادات التنظيم من الصفّ الأول، ما عدا المفتي العام المدعو «أبو علي شباط». يذكر أن الغارة الأولى، أتت بعد إعدام التنظيم عدداً من قيادييه بتهمة التعامل مع إسرائيل من الرعيل الأول، علماً بأن التنظيم حصل على مدى السنوات الماضية على دعم إسرائيلي مستمر، في ظلّ الحصار الذي يعانيه من جهة الأردن ومن الفصائل المسلحة في الشرق والشمال.
كذلك علمت «الأخبار» أن عدداً من مقاتلي التنظيم، أخرجوا خلال الأيام الماضية عائلاتهم من منطقة الحوض، تحسّباً لهجوم محتمل على مواقعهم في قرى اليرموك.