بعد الإنجازات المتتالية التي حققتها «إسرائيل» في الأمم المتحدة وعلى الأرض في توسيع استيطانها وتهويدها في القدس المحتلة، بدأت هجوماً جديداً يستهدف قلب حقائق الصراع بأن تظهر كالحمل الوديع وصاحب الحق الذي اعتدي عليه، وبالمقابل تعمل على شيطنة المقاومين والأسرى وأسرهم باعتبارهم إرهابيين وكل من يدعمهم ماديا إنما هو يدعم الإرهاب، ولهذا يجب وقف وتجفيف كل الدعم المالي والمخصصات التي تقدم للأسرى وأسر وعوائل الشهداء.
وبالتالي على السلطة الفلسطينية الالتزام بذلك وتنفيذ هذا الأمر الإسرائيلي الذي اصبح.
بعد زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى رام الله واجتماعه مع رئيس السلطة محمود عباس، أمراً أميركيا وشرطاً مسبقاً لاستئناف المفاوضات وتحقيق ما يسمى تسوية، هي في حقيقتها استسلاماً وخضوعاً للمحتل وشروطه وإملاءاته.
والخطير في الأمر أن اعتراض السلطة على مثل هذه الطلبات الإسرائيلية الأميركية، جاء خجولاً، وطبعا تحت حجة باتت معروفة، وهي أن موازين القوى لا تسمح برفع الصوت، وأن الدعم المالي للسلطة سوف يتوقف إن هي أعلنت رفضها القوي؛ ولهذا هي تفضل عدم التصعيد، وذلك لتجنب أن تنفذ «إسرائيل» قرارها باقتطاع المبالغ التي تصرفها السلطة كمخصصات للأسرى وعوائل الشهداء، من الضرائب التي تجبيها الحكومة الإسرائيلية لمصلحة السلطة، وكذلك خوفاً من أن ينفذ الكونغرس الأميركي مشروعه بوقف المساعدات المالية للسلطة في حال واصلت ما وصفه «تمويل أفراد ادينوا بالقتل»، وطبعاً يقصد المقاومين الأسرى في سجون الاحتلال وأسر الشهداء.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أن السلطة ذهبت حد تقديم تنازلات جديدة في الجلسات المغلقة التي عقدت مع المبعوث الأميركي الجديد جيرارد كوشنير تضمنت استعداداً لقبول بأن يكون حائط البراق تحت السيادة الإسرائيلية في أي تسوية يتم الاتفاق عليها، وهو ما كشف عنه وانتقده القيادي في حركة فتح حاتم عبد القادر، وأكدته تصريحات عضو اللجنة المركزية لحركة فتح جبريل الرجوب، أدلى بها مؤخرا للقناة الثانية العبرية، وجاء فيها أن «حائط البراق مكان مقدس لليهود، ويجب أن يبقى تحت السيادة الإسرائيلية»، في سياق يبدو أنه يهدف إلى الترويج والتهيئة لهذا التنازل.
إن الدول التي تدعم وتقدم المساعدات، إن كان للسلطة أو لمؤسسات وجمعيات فلسطينية، عندما تجد مثل هذا الموقف الضعيف للسلطة الفلسطينية والاستعداد لتقديم المزيد من التنازلات لإسرائيل، وفي الوقت نفسه تواجه هذه الدول ضغطا أميركياً إسرائيلياً لوقف مثل هذا الدعم، وتجد بالمقابل تخلياً رسمياً من معظم الدول العربية، وانسياق بعضها إلى التطبيع علناً مع «إسرائيل»، فإنها، أي هذا الدول، لا تتوانى عن الاستجابة للطلبات الإسرائيلية، لاسيما إذا كانت تجمعها مصالح مع واشنطن وتل أبيب، وهذا فعلا ما حصل، فبعد اعلان الأمم المتحدة (بضغط إسرائيلي أميركي) وقف دعم مركز الشهيدة دلال المغربي في نابلس، وهو مؤسسة اجتماعية تعنى بشؤون المرأة، بسبب اطلاق اسم الشهيدة عليه، طلبت النروج من السلطة الفلسطينية نزع شعار خارجيتها عن مبنى المركز وإعادة التمويل الذي كانت تبرعت به لإنشاء المركز، في حين اعلنت الدنماراك أنها بصدد دراسة وقف تمويل جمعيات فلسطينية بحجة أنها «تمارس التحريض ضد إسرائيل وتشجع مقاطعتها وفرض العقوبات عليها».
هذه التطورات السلبية بالنسبة للشعب الفلسطيني والايجابية بالنسبة لـ «إسرائيل»، تكمن خطورتها من كونها تساعد «إسرائيل» على تحقيق ما تحلم به لناحية تكريس روايتها المزعومة عن أصل وجوهر الصراع الدائر على أرض فلسطين وبالتالي قلب الحقائق، بجعل المحتل، المغتصب لحقوق وأرض الشعب الفلسطيني، صاحب حق، وسكان البلاد الأصليين، أصحاب الأرض اللذين يتعرضون للاضطهاد اليومي وتسلب أرضهم منهم، هم المعتدون ولا يملكون حق الدفاع والمقاومة لحماية حقوقهم واستردادها، بل تحويل مقاومتهم ودفاعهم عن أرضهم إلى إرهاب يجب التصدي له ومحاصرته والعمل على محاربته.
وما يعزز هذه الرواية الصهيونية المزيفة لقلب حقائق الصراع أن السلطة الفلسطينية تواصل التنسيق الأمني مع الاحتلال واعتقال المقاومين باعتبارهم مخلين بالأمن، وبالمقابل تعترف بوجود «إسرائيل» وبأن لها حق في القدس.
إذا المشكلة ليست في العدو الصهيوني المحتل الذي يعمل على تكريس احتلاله وتشريعه، وإنما المشكلة والمصيبة تكمن في السلطة الفلسطينية التي باتت من أجل أن تحافظ على امتيازاتها مستعدة لتقديم التنازل تلو التنازل، بعدما قبلت بأن تربط نفسها بوشائج التبعية للمحتل والدول التي أنشئت ودعمت ورعت دولة الاحتلال.