لم تعد مسألة الانتخابات الفرعية المفترضة في كلّ من كسروان وطرابلس لملء المقاعد النيابية الشاغرة بفعل انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا، واستقالة النائب روبير فاضل، ووفاة النائب بدر ونوس، خيارًا تستطيع السلطة السياسية تجاوزه، كما كانت تمنّي النفس قبل أسبوع، بفعل الحملات والضغوط السياسية التي فعلت فعلها على ما يبدو.
حين سئل عن الموضوع في جلسة لجنة المال والموازنة، قال وزير الداخلية نهاد المشنوق أنّ البحث جارٍ بهذا الموضوع، متحدّثًا عن دراسةٍ دستوريّة وقانونيّة يتمّ إعدادها حول كيفية إتمام هذه الانتخابات، وما إذا كانت ستتمّ وفق دوائر القانون الجديد أم وفق دوائر قانون الستين، علمًا أنّ البعض ذهب لحدّ تحديد موعدها في شهر آب أو أيلول المقبلين.
وبمعزلٍ عن التفاصيل "التقنية" المرتبطة بالاستحقاق، فإنّ وزير الداخلية بدا بمواقفه هذه، كمن أطلق صافرة الانطلاقة لمعركةٍ انتخابيّة مزدوجةٍ، قد يكون صحيحًا أنّ لا أحد متحمّسٌ لها، إلا أن الصحيح أيضًا أنّ الجميع سيخوضونها، ولو مُكرَهين...
معركة طرابلسية طاحنة؟
على الرغم من أنّ الوقت لا يزال مبكراً للانتخابات الفرعية، تبدو عاصمة الشمال طرابلس متأهّبة للمعركة وكأنّها حاصلة غداً، علمًا أن الكثيرين يقولون أنّ الصراع على الزعامة في طرابلس بالتحديد هو الذي كان يدفع رئيس الحكومة سعد الحريري إلى تغليب خيار التمديد للمجلس النيابي على أيّ خيارٍ آخر، خشية تعرّضه لانتكاسةٍ جديدةٍ تشبه تلك التي مني بها في الانتخابات البلدية الأخيرة، ليس الوقت ملائمًا لها بأيّ شكلٍ من الأشكال.
هكذا، تبدو الصورة "ضبابية" بالنسبة لـ"تيار المستقبل". الثابت أنّ لا حماسة لديه لخوض الاستحقاق، ولكنّه في الوقت نفسه "مُربَك" كونه يعلم علم اليقين أنّ التوافق على ملء الشواغر متعذّر بل شبه مستحيل، خصوصًا في ظلّ تصاعد الخلاف بينه وبين وزير العدل السابق أشرف ريفي. ولذلك، فهو لن يكون مخيَّرًا في خوض الاستحقاق من عدمه، باعتبار أنّ المقعدين الشاغرين هما أصلاً من حصّته، وليس جائزًا أن يفرّط بهما تحت أيّ ذريعة، لأنّ ذلك سيُظهِره في موقف الضعيف والخائف، وهو ما لا يشكّل مصلحة بالنسبة إليه.
وبخلاف "المستقبل"، لا يخفى على أحد أنّ الوزير أشرف ريفي قد يكون أكثر "المتحمّسين" للاستحقاق الطرابلسي المبكر، وهو الذي ينادي منذ أشهر بإجراء هذه الانتخابات باعتبارها ملزمة وغير اختياريّة بموجب الدستور. ويتطلع ريفي من دون شكّ إلى أن يخوض هذه الانتخابات ترشيحًا عن المقعدين الشاغرين، لأنّه يريد أن "يكرّس" من خلال هذا الاستحقاق "تفوّقه"، الذي تمظهر في الانتخابات البلدية الأخيرة حين واجه كلّ أحزاب السلطة مجتمعةً وألحق بها هزيمةً مدوية، ويردّ بذلك على من قال بعدم وجود أيّ طابع سياسي للانتخابات البلدية، وبالتالي عدم انعكاسها على الاستحقاقات السياسية الأساسية.
وإذا كان ريفي يسعى إلى أن يثبت عبر هذه الانتخابات "انتصار" خطّه على نهج "المستقبل"، نتيجة للتنازلات "غير الشعبية" التي قدّمها الأخير، ولم يتقبّلها شارعه الطرابلسيّ خصوصًا، فإنّ رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي لا يبدو هو الآخر بعيدًا عن جوّ المعركة، بل إنّ معلوماتٍ أشارت إلى أنّه حسم ترشيح الوزير السابق نقولا نحاس عن المقعد الأرثوذكسي الشاغر، مع عدم إقفاله الأبواب أمام إمكان التحالف، سواء مع "المستقبل" كما في الانتخابات البلدية، أو مع ريفي، الذي يبني معه علاقة قد تترجم تحالفاً انتخابيًا.
ولا يبدو "الحزب العربي الديمقراطي" في المقابل متحمّسًا حتى الساعة للانتخابات الفرعية، خصوصًا أنّ صورتها لم تتّضح بشكلٍ كاملٍ لغاية تاريخه، وأنّ الأرجحية تذهب نحو إجرائها وفق النظام الأكثري، الذي لا يعطي الشارع العلوي فرصة انتخاب ممثله بأصوات العلويين، وإن كان يرجّح أن يخوضها في نهاية المطاف.
"التيار" اتّخذ قراره...
ولا تبدو الصورة في كسروان، التي تستعدّ لانتخابات فرعية على المقعد الذي شغر بانتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية، مماثلة لتلك السائدة في طرابلس، فطبول المعركة هنا لم تقرع بعد، والحديث عن قانون الانتخاب الجديد والتحالفات التي سيوجبها لا يزال يتقدّم على الاستحقاق الذي يفترض أنّه الأقرب.
وحده "التيار الوطني الحر" اتّخذ على ما يبدو قراره بخوض هذه الانتخابات على أعلى مستوى، كيف لا والمقعد الشاغر له "رمزيّته الفائقة"، وهو الذي كان الرئيس ميشال عون شخصيًا من يشغله، وبالتالي فلا يمكن لـ"التيار" أن ينأى بنفسه عن المعركة على من "يخلفه" بأيّ شكلٍ من الأشكال. وتشير المعطيات إلى أنّ العميد شامل روكز سيكون مرشح "التيار" لخلافة عون في هذا المقعد، حتى ولو كان هناك وجهة نظر تقول بأنّ طبيعة الانتخابات الفرعية قد لا تتطلب مرشحًا من الطراز الرفيع، خصوصًا أنّ مدّة الولاية التي ستنتج عنها قصيرة نسبيًا، علمًا أنّ العميد روكز سيكون، كما أصبح شبه معلَن، رئيس اللائحة التي سيشكّلها "التيار" في الانتخابات النيابية المقبلة، بغضّ النظر عن التحالفات.
وعلى الرغم من تقدّم أسهم العميد روكز في مجمل الإحصاءات الكسروانية، فإنّ الأجواء تشي بأننا متّجهون نحو معركة، ولو خجولة، لأنّ القوى الكسروانية الأخرى، وإن لم يحسم معظمها أمره وهو يرجئ ذلك لحين نضوج الموضوع ودعوة الهيئات الناخبة بصورة رسمية، ليست مستعدّة على ما يبدو لإخلاء الساحة لـ"التيار"، من دون أن ننسى استحضار البعض لنظرية "الغريب"، في تلميحٍ إلى روكز، صاحب الجذور غير الكسروانية، رغم أنّ الواقع نفسه كان ينطبق على الرئيس ميشال عون، ابن بلدة حارة حريك.
وتتريّث "القوات اللبنانية"، على سبيل المثال، في إعلان موقفها، رغبةً منها بالتقريب بين "التيار" وسائر حلفائها في الدائرة، خصوصًا أنّها لا تجد مصلحة في تفجير علاقتها الآن مع أيّ من الأفرقاء الكسروانيين، باعتبار أنّ التحالفات التي تريد أن تخوض على أساسها الاستحقاق النيابي المقبل لم تنضج بعد، ولا تزال بحاجة لبعض الوقت حتى تتبلور. ومثلها تفعل الفعاليات الكسروانية، وعلى رأسهم النائبان السابقان فريد هيكل الخازن ومنصور غانم البون، اللذان أرجآ تحديد موقفهما حتى صدور شيء رسمي يبنى عليه.
لا "بروفا"...
حُسم الأمر إذاً، والانتخابات الفرعية في كلّ من طرابلس وكسروان ستحصل خلال شهرين، وإن تأخّر وقتها. إلا أنّ هذه الانتخابات لن تشكّل "بروفا" للانتخابات النيابية المقبلة، لأنّها، وإن تمّت بموجب القانون الجديد، فإنّها تستظلّ شرعيّتها من القانون الأكثري القديم الجديد.
رغم ذلك، قد يكون مثل هذا الاستحقاق فرصة ليدخل اللبنانيون باكراً في جو المعارك الانتخابية، معارك يتمنّون، بعكس السياسيين، أن تكون طاحنةً قاسيةً، لا لشيء إلا لأنّهم اشتاقوا إلى الحماوة الانتخابية، بعدما فُرِض التمديد عليهم ثلاث مرّات، وكاد يصبح ثابتاً لولا بعض العيب والحياء...