لا يخفى على اي دارس او باحث ان مدينة طرابلس هي الاولى بين المدن اللبنانية التي تختزن ثروة تراثية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وهي الثانية بمعالمها الأثرية المملوكية والبيزنطية والآثار الفاطمية والصليبية لا سيما العمارة المملوكية الأهم.
مدينة متكاملة بأحيائها وأسواقها ومعالمها التي تنتشر في الأزقة القديمة للمدينة وتضم أكثر من 160 معلما أثريا ومن أبرزها الحمامات(1) التي شيدت خلال حكم المماليك 1517–1250، ثم عرفت بالحمامات التركية لأن الأتراك عملوا على تطويرها، وارتبط دورها بالخانات، فكان مكملا لها حيث كانت قوافل التجار والمسافرين تتخذ منها محطات إستراحة مثل فنادق اليوم، وكانت تقدم فيها الخدمات المختلفة للمقيم.
حمّامات طرابلس اليوم وعددها 11، لم يبق منها قيد العمل سوى حمام العبد وبات معلما سياحيا لا بد لاي سائح يزور المدينة الا ان يتجه نحوه في الاسواق الداخلية التي لا تزال البصمات المملوكية واضحة عليها، سواء في الحمامات او في الاسواق التي ترقى الى العهد المملوكي.
حمام العبد
حمام العبد احد اهم واشهر الحمامات في طرابلس، هندسته تتيح للمرء الاستحمام بمفرده او مع مجموعة، وهو الوحيد الذي لا يزال قيد العمل لمن شاء نظرا لما يتيحه من راحة جسدية وصحة ونظافة، ولطالما شهد ولا يزال زوارا من لبنان وسوّاحا من الدول العربية والاوروبية.
فحمام العبد الشاهد الوحيد الذي يعمل في الوقت الحاضر ويستقبل أهالي المدينة الذين يقضون اوقاتا طويلة في ارجائه، ويعود تاريخ إنشائه إلى العام 1708 ويتشارك مع باقي الحمّامات باستقبال الزوار للتعرف على تاريخها وهندستها.
يستعيد أبناء طرابلس في هذا الحمام ذكريات مجد غابر، أما سبب تسميته بحمام العبد، تقول الرواية أن أحد المقربين من الباشا آنذاك وهو من آل السلطي قتل وشهد على عملية القتل خادم الباشا وهو من الجالية الافريقيّة، فهرب الى الحمام خوفا من القتلة الا انهم علموا بأمره وأردوه على عتبته ومنذ تلك الحقبة سمي بحمام العبد نسبة الى الخادم الأسمر.
يقع الحمام بالقرب من خان الصابون في سوق الصاغة داخل الاسواق القديمة حيث يتفرع عنه بممر طول 15 مترا، ولحظة الاقتراب منه تشعر بالدفء والجو العابق بسحب من البخار في المنطقة، فضلا عن روائح الصابون العطرة المتسربة من الداخل، ليتخيل للزائر انه في حديقة زهور تفوح منها كافة الروائح التي تنعش النفس، وعند دخولك عتبة الحمام، ترى لوحات تحكي عن عصور مرت على هذه المدينة تزينها جدران مزخرفة وقناطر تتدلى منها مصابيح قديمة وموسيقى طبيعية تبثها المياه المتسربة من بركة تتوسط القاعة الاساسية له، وتعرف “بالبرّانية” التي يجلس فيها عدد من الرواد على مقاعد طويلة مفروشة بالوسائد والأقمشة الملوّنة ذات الطابع الشرقي، وثمة صدر نحاسي كبير يتضمن مصبّات القهوة العربية الاصيلة.
تتميز هذه القاعة (البرانيّة) بسقفها العالي المدوّر الذي يزيد إرتفاعه على ثمانية أمتار وتتوسطه قبّة مزيّنة بزجاجيات ملوّنه تعكس أشعة الشمس إلى الداخل بالوان مختلفة تشبه قوس قزح.
ولأن الجلسة يجب أن تكون مريحة بالنسبة إلى الزائرين، يسارع العمال على الطريقة العربية إلى تقديم القهوة والشاي وكل أنواع العصير فضلا عن تقديم النرجيلة. وتتميز الحمامات بوضع "القباقيب" الخشبية بتصرف الرواد وهي متواجدة بمختلف المقاسات وموضوعة على ادراج القاعة الرئيسية لتقود خطى المستحم نحو غرف “الجواني والوسطاني” التي يفصل بينهما ممرات ضيقة ودافئة.
أما بالنسبة لغرف "بالجواني" التي تتميز بحرارة مرتفعة والمعروفة ايضا بغرف “التكييس” حيث يعمد العمال إلى تنظيف الجسد بواسطة كف مصنوع من شعر الماعز الخشن.
يقول احد المسؤولين في الحمام لـ"النشرة" ان هذا الكف مطهّر ولا ينقل الامراض الجلدية من جسم الى آخر، ومن دون شك يستعمل الصابون البلدي المعطر حسب ذوق المستحم (عسل، ورد، غار…) كما يستعمل بعض انواع الصابون الطبي في حال كان يعاني المستحم من امراض جلدية وآلام المفاصل والتشنجات.
بعد الإنتهاء من المرحلة الاولى ينقل المستحم إلى غرفة "المسّاج" ويدلك لمدة 10 دقائق ثم ينقل إلى غرفة "الوسطاني" المعتدلة بحرارتها وهي عبارة عن قاعة صغيرة يجلس فيها المستحم على مقعد حجري بانتظار أن يبرد جسمه استعدادا للخروج إلى "البرّاني" ليتم وضع المناشف عليه.
في البراني يجتمع المستحمون بعد الانتهاء لتناول المشروبات، وتفتكون فرصة للتواصل الاجتماعي، وقد روى لـ"النشرة"، أحد العمال ان بعض الاشخاص يمضون يوما كاملا دون ضجر او ملل، وخصوصا العريس الذي يأتي مع اصحابه قبل ليلة زفافه للاستحمام ولوداع آخر ليلة "عزوبيّة" يرافقهم احيانا عازف عود وكمان وطبّال فيقيمون سهرة غنائية دافئة.
ولو كان الحمام مخصصا في معظم اوقاته للرجال، فإن للنساء اوقاتا محددة حيث يتبرّجن ويتزينّ ويقضين اوقاتا مماثلة كالرجال.
تجدر الاشارة الى ان طريقة التسخين في الماضي كانت تتم بواسطة وعاء نحاسي كبير يعرف بالمرجل وهو يستوعب 15 برميلا من المياه ويوضع عند طرف الحمام، ويعمل بواسطة الحطب وفضلات الخشب. أما الآن فتتم عملية التسخين على الطريقة الحديثة، وتستعمل مادة المازوت للتشغيل.
وما يثير القلق اليوم هو أن يلاقي حمام العبد مصير غيره من الحمّامات، فيصبح مَعْلَمًا أثريا يزوره السوّاح فقط من دون المحافظة عليه ليشهد على حقبة تاريخية مرت على هذه المدينة، وتمنى العديد من الطرابلسيين واللبنانيين من المسؤولين في الدولة المحافظة عليه ودعمه ليستمر في استقبال الزوّار، وتنشيطة الحركة التجاريّة لهذه المدينة المحرومة.
(1)حمام النزهه، جرفه طوفان نهر ابو علي عام 1956 ولم يسلم منه الا بعض الحجارة. وحمام القاضي بني عام 1340 وهدم لاحقا دون معرفة تاريخ هدمه والاسباب. وحمام العطار، نسب إلى ناصر الدين العطار ولم يبق منه سوى واجهته الغربية. وحمام الحاجب بني بين عام “1322 وعام 1332” ولا تزال آثاره ظاهرة على الضفة الشرقية لنهر أبو علي. وحمام عز الدين، بناه نائب السلطنة عز الدين أيبك الموصلي المنصوري بين العامين 1326 و1330 ويعتبر من أشهر حمامات طرابلس، وظل يعمل حتى ثمانينات القرن الماضي، ويذكر التدمري في كتابه أنه أقيم على أنقاض كنيسة لاتينية حيث تظهر بعض الكتابات والنقوش اللاتينية عند مدخله الرئيسي وقد جرى ترميمه مؤخّرًا بصورة متطورة مع الحفاظ على تاريخه الاثري. وحمام النوري المملوكي، يقع بالقرب من الجامع المنصوري الكبير، بناه الامير سنجر عبد الله النوري سنة 1310.
وحمام الدردار، بني عام 1700 ويعتبر من أجمل حمامات طرابلس من ناحية الهندسة وسعة داره .وحمام الحديد أو(القراقيش)، وكان يعرف بحمام الباشا أو حمام العظم نسبة إلى بانيه أسعد باشا العظم سنة 1740، ويمتاز ببوابته المرتفعة والمزخرفة والنقوش الموجودة على جدرانه. وحمام الطوافيه الذي لم يبق منه شيئا. وحمام القلعة المجهول التفاصيل. وحمام الحمام الكبير يقع بالقرب من الجامع الكبير.