ترفض الحكومة اللبنانية منذ البدء بتاريخ العمل بما عُرف بـ «النأي بالنفس» عن الأزمة السورية التواصل مع الدولة السورية بشكل كامل وتام، ليبدو هذا الإعلان مجرد تموضع للبنان الرسمي ضمن الدول المقاطعة للنظام السوري لا المحايد. فلبنان نأى بنفسه عن الحكومة السورية بدلاً من الحياد الذي يشكل بمفهومه السياسي التواصل عدم التموضع أو الاصطفاف.
مفهوم النأي بالنفس الذي ناقض بعضه البعض، عولج على أساس أنه «حياد» في الأروقة السياسية المحلية في وقت تثبت التجربة اليوم أنه كان فقط ترجمة لمقاطعة مباشرة لسورية من دون تطبيق أي عنصر من عناصر «الحياد»، وما فيها من تعاون وتواصل بين الدول أو أي طرف من أطراف النزاع بدون الانخراط في الأزمة رسمياً، في حين ان عناصر الحياد تطلب لاعبين سياسيين بعيدين كل البعد عن التبعية السياسية. وهي الحالة التي لا يجسّدها الرئيس تمام سلام بقربه من تيار المستقبل والمملكة العربية السعودية كرأس حربة بالصراع الحاصل في سورية. وهنا، ليس الذنب هو ذنب الرئيس تمام سلام قطعاً، بل هو مجرد الواقع الذي يؤكد استحالة تطبيق مفهوم الحياد في لبنان، البلد الذي يعيش أحزابه وسياسيوه ضمن ذيول الماضي واصطفافات الحرب الاهلية وتموضعات الحاضر التي تقسم البلد بين محور موالٍ للولايات المتحدة أو الخليج ومحور آخر موالٍ لروسيا وإيران وسورية.
أزمة اللجوء السوري في لبنان تتفاقم، وهي اليوم باتت ضمن البحث الجدّي في تقديم مسألة التواصل مع سورية بين الرفض والتأييد معاً وبدأت الأوساط المندّدة بالفكرة من بعض وجوه المرحلة السابقة إبان اغتيال الحريري تعود لتطلّ من جديد بعدما وجدت في المناسبة فرصة للخروج من تحت ركام التسويات التي عصفت بكل مرحلة عام 2005 وتحوّلاتها، لكن كل هذا الذي يوضع ضمن إطار المتوقع بين الاستنكارات المتخفية ضمن التحذير من بوابة علاقة مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد «الديكتاتوري» ، كما يوصف تبقى طبيعية مقابل الفضيحة التي كشفتها الأزمة بين تباين المواقف من التعامل مع النازحين، أكان على مستوى مواقف رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء أو المخارج الملتوية التي تنوي الدولة اللبنانية سلوكها تحت أسماء وشعارات لا تشبه الإجماع السياسي بشيء.
المفارقة هنا أن الأسماء التي تعارض التواصل مع الحكومة السورية هي نفسها التي تثير الملف من أبوابه الاجتماعية المعترضة على وجود السوريين ومدى تاثيرهم على العجلة الاقتصادية وأخذ فرص العمل من طريق العامل اللبناني إضافة إلى عنصرية كبيرة ومشهودة عُرفت بها منذ وجود السوريين في لبنان. وهو الموقف غير المعلن لهؤلاء الاشخاص، لكنه احد اهم المواقف التاريخية التي جعلت من مواقفهم أساس الاعتراض على وجود الجيش السوري وسورية في لبنان أصلاً في المرحلة الماضية.
وفي وقت تبدو العيون متوجّهة حسب الأجواء نحو تكليف اللواء عباس إبراهيم المدير العام للأمن العام بمهمة التواصل مع الدولة السورية كموفد رئاسي لا يورط الحكومة بموقف رسمي وجهة مقبولة لدى حزب الله والمسقبل وباقي الأفرقاء، تبدو موافقة الحريري غير المعلنة واضحة في السير بهذا الاتجاه من خلال عدم اعتراضه على الفكرة كمبدأ. وهنا يصبح السؤال لماذا لا يعلن الحريري تزخيم الملف عبر تأطيره بمجلس الوزراء ودفع العملية نحو إنتاجية أكبر نظراً لأهمية ما ستعود به من فائدة على الوضع الداخلي اللبناني.
لكن ومن جهة أخرى يرى مصدر متابع للملف لـ»البناء» ان تحريك هذا الملف من الاساس والجرأة التي تبدو واضحة على أطراف حليفة لسورية في طرح الملف والتركيز على ضرورة إيجاد طريقة ما للتعاون مع سورية ليس الا تأكيداً على مؤشرات المتغير الدولي والإقليمي الذي لعب لصالح حزب الله حلفائه. وهو واقع ضمن المعادلة نفسها التي اسست لرئيس جمهورية قوي وقانون انتخاب جديد. ويبدو حسب المصدر، أن ملف النازحين هو الملف الثالث الأدق الموضوع على نار هذا الفريق الذي بدأ يحصد بشكل ملحوظ ما زرعه في الموقف تجاه سورية خلال السنوات الماضية، مستفيداً من اصطفافه الإقليمي في هذا الإطار الواقع ضمن دائرة معالجة الملف السوري نفسها أي شرعنة النظام الحالي والتعاطي معه كممثل وحيد وشرعي للدولة السورية. وهو وحده القادر على تقديم حل لأزمة النزوح وإلا لماذا لم يصمّم هذا الفريق على طرح الملف بهذا الإصرار والثقة بإمكانية طرحه من دون أن يشكل عاملاً يهزّ المعادلة التوافقية الحالية وهو أساساً أكثر الملفات دقة وبيت قصيد الخلاف الذي قسم البلد عمودياً ألا وهو «العلاقة مع سورية؟».
عمليا لا تبدو سورية مهتمة بشكل كبير بهذا الملف، بل هي مستعدّة لتقديم التعاون فيه، لا أكثر ولا أقل. فهي تعرف تماما ان المسألة هي حاجة لبنانية اكثر مما هي سورية، وأن مسالة استغلال العلاقة مع لبنان ليست أبرز الملفات الموضوعة على طاولة القيادة السورية التي ترى في الجبهات المشتعلة واجواء الكواليس الدبلوماسية الدولية حول حل سياسي موزون للازمة السورية أهم بكثير من مسألة توريط لبنان أو استدراجه نحو خطوة لا تقدّم أو تؤخر بالنسبة لمسألة إعادة العلاقات الدولية مع سورية وتخليصها من الأزمة بالكامل.