لفتت نظر كلّ الذين يتابعون العلاقة الروسية الأميركية اللقاءاتُ الرئاسية لمهندس الحقبة الذهبية في الدبلوماسية الأميركية الوزير الأسبق للخارجية هنري كيسنجر، الذي صمّم وأخرج الانسحاب من فييتنام وقاد ببراعة الانفتاح على الصين ورعى تفاهمات وقف النار بعد حرب تشرين 1973 بين سورية و«إسرائيل». وقد شملت لقاءاته خلال سبعة شهور رؤساء الصين وأميركا وروسيا، ولم يخف الإعلان عن حرصه على تقديم المشورة والنصح لقادة الدول الثلاثة بخطورة التصادم وتصعيد المواجهات، والوقوف وراء خطاب يدّعي فرص التفرّد أو فرض الإرادات، طالما أنّ الحرب النووية مستحيلة، وأنّ لدى كلّ من هذه الدول ما يكفي من الهوامش والمقدرات لخوض حرب استنزاف ستفرض الجلوس على الطاولة في النهاية، لكن بعدما تكون كلّ مكاسب التفاوض قد صارت أقلّ بكثير من الكلّفة التي تكبّدها كلّ منهم في حروب الاستنزاف العبثية. ومن جهة مقابلة لم يكفّ كيسنجر عن التحدّث حول فرضية وجود فرصة تفاهم رابح رابح في العلاقات الدولية، لأنّ مواجهة الإرهاب ليست مجرد قضية أخلاقية وإنسانية، بل مصلحة عليا لكلّ من هذه الدول وللنظام الذي يملكون دوافع كبيرة لإشادته على الاستقرار في العالم بما يتيح فرص الرخاء والنمو لاقتصاداتهم ولأنّ تخفيض الإنفاق على سباقات التسلح النووي سيوفر الكثير من الموارد لإنفاقها في خطط التنمية والفوز بعائداتها ولأنّ أغلب الصراعات لا تدور حول قدرة فريق على انتزاع نفوذ أحادي في منطقة من العالم بل حول نسب تقاسم النفوذ في الحلول، وليس في الحروب، استناداً لقدرة كلّ طرف على تعطيل أحادية نفوذ الآخر.
يوحي كيسنجر في إطلالاته القليلة وما يُنقل عنه بتفاؤل نابع من إدراك قادة روسيا والصين وأميركا بأنّ التفاهم قدرهم جميعاً. وهو لا يقلل من صعوبات الخروج بإعلان التفاهم، خصوصاً بالنسبة للرئيس الأميركي المحاط بحرب استباقية خيضت عليه تحت عنوان اتهامه بالضعف أمام الرئيس الروسي، لكنه لا ينفي فرص تفاهمات غير معلنة تسير ببطء وتثبت أرضية وقف الاستنزاف وتفتح باب تظهير عائدات التفاهم ما يتيح البناء عليها ومواصلة التظهير والبناء حتى تحين لحظة ترسيخ قواعد نظام عالمي جديد بات ضرورياً وملحاً لكلّ من الدول الثلاث. فغياب النظام وسيادة الفوضى وخطر الإرهاب أشدّ كلفة من مجرد وجود نظام ولو كان تشاركياً مع الغير، خصوصاً على واشنطن التي قد يروق لها الحديث عن التفرّد وأحادية القطبية، والحنين لاستعادتها، وهما تفرّد وأحادية لم يعودا موجودين، والإصرار على عدم الاعتراف بسقوطهما لا يُعيدهما للوجود بل يُبقي العالم بلا نظام ويبقي الفوضى والإرهاب في تنامٍ مستمرّ وزيادة عدد الدول الفاشلة في تصاعد ما يوفر المزيد من الفرص للمزيد من الفوضى والإرهاب.
بالاستناد إلى خبرة كيسنجر في مفهوم الخطوة خطوة التي اتبعها في التوصّل لاتفاق فك الاشتباك بين سورية و«إسرائيل» عام 1974 بعد عشرة شهور من الحرب، يمكن توقّع السيناريو الأفضل المنتظر من قمة بوتين ترامب، بأن يبدأ بوضع قواعد الاشتباك ورسم المناطق المحرّمة في التصادم، أيّ الخطوط التي لا يجب بلوغها مهما بقي الخلاف قائماً والصراع مستمراً. وهي معلومة للفريقين بوضوح، تمثل عند واشنطن عدم تقديم الدعم للرئيس الكوري لتغطية تصعيده بوجه واشنطن، وعدم دخول واشنطن بتصادم مع الدولة السورية وجيشها ورئيسها. وفي المقابل عدم توفير التغطية الأميركية للسعودية لشنّ حرب في قطر، وعدم قيام روسيا بتقويض النظام المناوئ لها في أوكرانيا. ثم الصعود درجة على السلم لربط نزاع، بتحديد القضايا التي يمكن مواصلة السباق والتنافس والصراع حولها، لكن تحت سقف تسجيل النقاط وامتلاك المزيد من الأوراق بانتظار جولة مقبلة. وهنا يحضر سوق الغاز والسباق، خصوصاً على أسواق أوروبا الغربية، واختبار كلّ فريق مقدراته على حجز حصص ثابتة في هذه السوق، كما تحضر العلاقة المباشرة أو عبر الحلفاء بكلّ من إيران وتركيا و«إسرائيل» سلباً وإيجاباً على قاعدة استبعاد خطر المواجهات التي تهزّ الاستقرار، فيصير لجنوب سورية نصيب من الترتيبات، ولشمالها مع الأكراد نصيب، وللخليج نصيب، كضوابط لمنع التصادمات، ليتمّ الصعود لاحقاً على درجة جديدة من السلم وبلوغ اللحظة المناسبة للتفاهمات الكبرى أو الصفقة التاريخية وفيه تحضر على الطاولة خرائط الاستراتيجية، حيث لروسيا حضور معترَف به سياسياً وعسكرياً واقتصادياً في الدول التي كانت ساحة نفوذها في الحرب الباردة، وبعض المصالح خارجها، والعكس بالنسبة لأميركا، وحصر الحالات المتغيّرة على الخريطة لبحث مصيرها، وخصوصاً اللاعبين الكبار الجدد وفي مقدّمتهم إيران.
لا يتوهّم أحد أنّ القضية خلافات رأي واجتهادات مواقف. فكلّ شيء معلن وواضح، رغبة أميركا بتحجيم مكانة روسيا العائدة بقوة إلى الساحة الدولية الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وروسيا استثمرت ما يكفي لفرض حضورها بصيغة جديدة وما عاد ممكناً توقع عودتها إلى الوراء، وقد فرضت معادلات جديدة ما عاد ممكناً كسرُها ولا تجاهلها، فالحوار يبدأ من تسليم أميركي بأنّ التعاون حاجة، بينما هو بالنسبة لروسيا هدف.