يتبدّل المشهد السياسي فجأة من السلبية «المطلقة» نحو الإيجابية الملحوظة خلال ساعات فقط، يحصل هذا استثنائياً عندما تقرّر الدول الكبرى بذل المزيد من الجهود باتجاه توفير مساحة من التحضير للإعلان عن مرحلة جديدة بعد مخاض طويل من التمسّك الأحادي الجانب لكل طرف بمواقفه السابقة من دون نيّة بالتقارب نحو نصف الطريق.
هو نصف الطريق، ربما الذي خرجت فيه قمة العشرين في هامبورغ بين الأميركيين والروس، والتي كانت في الواقع مظلة لقمة تاريخية أكبر بكثير من تفاصيل ما صدر عن اجتماع الدول الكبرى في 7 و8 تموز الحالي، فالرئيسان الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين التقيا في أول قمة تُعقد بينهما بعد انتخاب الرئيس ترامب وعاصفة الاستفزازت والاتهامات وصولاً حتى التهديد بالعزل، بسبب ما روّجته تقارير وأجهزة أمنية أميركية عن تعاون روسي مع حملة ترامب وتدخّل روسي جدّي في الانتخابات الأميركية.
لقاء نتجت عنه قرارات حيال العمليات العسكرية في سورية، خصوصاً جبهة الجنوب، حيث وافق الرئيسان على الإعلان عن بدء العمل بوقف اطلاق النار في 9 تموز الحالي ما شكّل تناقضاً بين الأجواء التي كانت سابقة بين واشنطن وموسكو والتي وصلت حد التصريحات الشديدة الحدة مؤخراً. فمسألة تحرر الرئيس الأميركي من الضغوط المحلية التي كان يواجهها مع عناصر وازنة في المؤسسة الأميركية كما أن استقالات وإقالات عدة طالت مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى، بسبب ملف تدخل روسيا المزعوم بنتائج الانتخابات الأميركية.
كل شيء سار على ما يُرام في وقت كانت العيون شاخصة نحو مسألة أساسية. وهي هل ستحصل قمة بين الطرفين او لا؟ وإذ بالنتيجة قمة رسمية متفق على جدول أعمالها تؤكد ان الاجتماعات المعقودة في الاردن بين ضباط من الطرفين الروسي والأميركي، بخصوص الحديث عن مصير جبهة الجنوب السوري كانت جدية ومثمرة جداً.
الاتفاق بين بوتين وترامب يعني أن سلسلة اجتماعات بين الطرفين كانت قد جرت بين كواليس التصعيد الذي احتل الاعلام، في وقت كان العمل على قدم وساق بين دبلوماسيي الطرفين لإنجاح قمة الرجلين الاستثنائية.
الاتفاق هو تأكيد على أمر أساسي ألا وهو تعاون سوري مباشر مع روسيا في التوصل لهدنة في الجنوب، وهو أيضاً بطريقة أو بأخرى تعاون أميركي غير مباشر مع النظام السوري، وتنسيقاً عسكرياً وميدانياً معه. فالساعات الأولى من سريان العمل بوقف إطلاق النار تبدو واعدة لجهة التأسيس لأرضية عمل فعّالة بين الأميركيين والروس.
حالة من الهدوء على مختلف الجبهات الجنوبية بعد يوم واحد من إعلان بدء العمل بالهدنة. الجيش السوري هنا هو أحد أبرز العناصر القادرة على إنجاح أو إفشال هذا المخطّط وتبدو إيجابية كبيرة عند سورية في التوصل لحلول منطقية تحفظ سيادة البلاد بالتعاون مع الحليفة روسيا التي تحاول كسر الجليد مع الأميركيين وخلق مظلة روسية أميركية تحدّد مصير الأزمة، خصوصاً جبهة الجنوب التي تعني «إسرائيل» مباشرة وتكاد تفرض على الولايات المتحدة الخضوع لفكرة التعاون مع روسيا، لأن «لا حلّ» من دون هذا الخيار. فواشنطن تبدو بأمسّ «الحاجة» لخلق صيغة حلّ ينقذ «الإسرائيليين» او على الأقل يوضح مصير الحدود معهم أمنياً وعسكرياً، فتل أبيب التي تدرك أن حزب الله وإيران والجيش السوري كلّها قوى عزّزت حضورها مع حدود فلسطين المحتلة الجنوبية مع سورية تدرك أيضاً أنها عاجزة تماماً عن الدخول بأيّ حديث عن عملية سياسية أو معاهدة هناك من دون مساعٍ روسية.
هذه الحاجة ربما تفسّر وحدها منطق تقدم الأمور، كما رُسمت اليوم وتجاهل الأميركيين خطابات تصعيدية ضد روسيا أوحت بقطيعة ونسف كل ما عمل عليه الرئيس السابق باراك اوباما ومساعدوه في عهده مع روسيا.
حان الوقت للعمل البنّاء مع روسيا. كلام لترامب رافقه اعتراف من مستشار الامن القومي الأميركي هيربيرت مكانمستر بضرورة التعاون واصفاً الاتفاق بين بلاده وروسيا بالخطوة المهمة.
توجّه ترامب للقاء الرئيس الروسي، رغم تصويت مجلس الشيوخ الأميركي قبل ايام وبأغلبية ساحقة، لمصلحة قرار فرض عقوبات جديدة بحق روسيا، في ردّ على تدخلها في الانتخابات الأميركية أي أن مسألة إغلاق هذا الملف لا تزال صعبة في الشارع الأميركي. وهو الأمر الذي يفسّر أن المتغيرات العسكرية وتقدم محور روسيا في سورية وما يشكله من أخطار تواجد حزب الله وإيران على الحدود مع «إسرائيل» هو أكثر ما يمكنه أن يساعد ترامب كذريعة داخل المؤسسة الأميركية للتواصل مع روسيا.
فمصير «إسرائيل» هو المطروح على الطاولة هذه المرّة!
وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون الذي يواظب على تكثيف تصريحاته تجاه سورية ونظامها، تقول المعلومات إنه كان الأكثر اهتماماً بالتحضير للقاء الرئيسين في هامبورغ وأكثر المهتمّين بنجاحه وهو أعلن بوقت سابق من عقد القمة أن الرئيس ترامب طلب منه العمل على إعادة بناء العلاقات مع روسيا عازياً ذلك لرغبة ترامب إلى «حرصه على الفصل بين قضية اتهام عدد من أعضاء فريقه بالارتباط مع جهات روسية، ومساعي تحسين العلاقات بين واشنطن وموسكو».
يمكن لواشنطن اذا الفصل بين المشاكل والمصالح بساعات وأيام قليلة، ويمكنها إعادة التموضع بشكل مدهش وتحويل الخلاف لتقارب عندما تقتضي المصلحة، حتى لو كان الحديث يمسّ سيادة وطنية أو خيانة كتلك المنوطة بالتدخل الروسي…
إنه أمن «إسرائيل»!