بينما تخفق الأعلام كخفقات القلوب فرحاً بتحرير الموصل من دنس داعش يقف المرء حائراً صامتاً حزيناً على حجم الدمار الذي ألحقه داعش والطيران الأمريكي بأقدم وأغنى مدينة في التاريخ بإرثها الحضاري والمعماري الفريد. ويرفض السؤال أن يغادر الأذهان: من هي هذه القوة الخفية المرئية التي تتبع أسلوباً واحداً ممنهجاً ألا وهو تدمير الأوابد التاريخية العربية والمعامل والمتاحف والجامعات والمكتبات والمدارس ومراكز البحوث والجسور والمعابد والمساجد والمباني الحكومية الخدمية وغيرها من معالم الحضارة الأصيلة في ليبيا واليمن وسورية والعراق؟ من هي هذه القوى التي تستخدف تدمير آثار الملكة زنوبيا وقصر هارون الرشيد وقصر البنات، والذي هو أول مستشفى نسائي في التاريخ ربما، ومسرح بصرى، والمنارة الحدباء، وآثار بابل ونمرود ونينوى، ولوحة نبوخذ نصّر، وأقدم كنيس يهودي في العالم في جوبر، وأسواق حلب والموصل واليمن القديمة المدهشة، ومكتباتها، ومنارة الجامع الأموي في حلب، ومتحف الفسيفساء الفريد في معرّة النعمان، والقائمة تطول وتطول حتى قبل أن نبدأ في إعداد قائمة بالمواقع التاريخية الفريدة في اليمن وسدودها ومحمياتها؛ أهيَ الصدفة البحتة التي تدفع هذه القوى الداعشية السّرية الإرهابية المتمثّلة بداعش، أو بقصف طائرات التحالف الأمريكية، مع أنظمة الخيانة الوهابية التي تولّت طاغوتها الأمريكي فتغدق عليه بالترليونات وتنفّذ خططه الجهنميّة ضدّ العرب، بالتأكيد أنها ليست صدفة؛ بل خطّة محكمة على رأس أولوياتها تدمير البنى التحتية والاقتصادية والصناعية ومحطات توليد الكهرباء والأوابد الأثرية، وقتل العلماء والمختصين، ودفع عجلة التاريخ مئات الأعوام إلى الوراء في البلدان العربية الأساسية في منظومة القوة العربية الضاربة، بينما يحتفي الكيان الصهيوني بزيارة رئيس وزراء الهند له لأول مرّة في التاريخ، وبينما يعكف هذا الكيان على إيجاد السبل لتطبيع العلاقات مع الدول الوهابية ودول الخنوع والتبعية، في الوقت الذي يكثّف من أساليب عدوانه على المسجد الأقصى، ويعبث بحياة ومصير الأسرى الفلسطينيين، ويغتال الشباب الفلسطيني ويصيدهم كما اصطاد المستعمر الأبيض البوفالو والهنود الحمر في الولايات المتحدة، والأبورجينز في أستراليا ونيوزيلندا قبل أن يدفن نهائياً حضارتهم وموروثهم الثقافي والديني ويبني على أنقاضه قوة عسكرية تمارس الاحتلال والقهر. إنّ مسحاً شاملاً ومعمّقاً في مختلف الأقطار العربية يري، دون أدنى شكّ، أنّ هدف الغرب بقيادة الولايات المتحدة وإسرائيل وأدواتهم دعش والنصرة والأخوان وكلّ تفرعاتهم، لا يختلف إطلاقاً في العراق وسورية واليمن وليبيا ومصر ولبنان وتونس والبحرين، وإنّ الأزمة القطرية – السعودية، والهراء التابع لها تصبّ في إطار استنزاف أيّ مال أو تاريخ أو حضارة ذات صلة بالعرب والعروبة حتى يتحوّل هؤلاء إلى رعاع لا قدرة لهم على بناء كيانات سياسية حقيقية، أو على أخذ مكانة لائقة إقليمية أو دولية. لقد كان الهدف من هذه الحرب على سورية هو تدمير آخر معقل لمن يتمسّك بالهوية العربية وبالحقّ العربي في فلسطين والجولان ولبنان، ولكنّ صمود سورية الأسطوري المضمّخ بدماء مئات الآلاف من شهدائها الميامين، ودعم حلفائها لها، وإخلاصهم قد غيّر هذه المعادلة. ومع أننا نبكي اليوم دماً على كلّ ما تمّ هدمه وتدميره، إلا أننا نحتفي بحقيقة أنّ دول المواجهة من روسيا وإيران، إلى العراق وسورية ولبنان حزب الله أصبحت أقوى وأعمق وعياً بأبعاد هذا الاستهداف الخطير، وأنّ الاتحاد الروسي، والذي استخدم الفيتو ثماني مرات لإبعاد شبح هذا الكابوس الاستعماري عن سورية، يقف اليوم كمحرّك أساسي لتوجّه السياسية الدولية المتعلقة بسورية والشرق الأوسط. وفي مقارنة بسيطة للقاءات الروسية – الأمريكية على مستوى القمة منذ سنوات عدّة، واللقاء الأخير في هامبورغ على هامش قمّة العشرين بين الرئيسين ترامب وبوتين، يلحظ المرء أنّ الاتحاد الروسي أصبح أقوى وأصلب عوداً، وأثقل وزناً في كلّ ما يتعلّق بالشرق الأوسط بشكل عام، وفي سورية بشكل خاص. وما كان هذا ليحدث لولا الوعي العميق بأبعاد هذا المخطط والغوص في العمق بأهدافه الحقيقية، وتضحيات شباب الجيش العربي السوري وحلفائه، والدعم الروسي والإيراني واللبناني السياسي والعسكري والاقتصادي لهذا الخيار المصيري.
رغم أنّ الحرب على سورية قد قادتها ظاهرياً الدول الوهابية؛ قطر والسعودية وأدواتهما، ولكن ذلك كلّه كان تحت قيادة الولايات المتحدة وإسرائيل وبالتنسيق السياسي والعسكري والدبلوماسي والإعلامي معها بشكل أساسي منذ أكثر من سنوات ستّ؛ فموّلت وسلّحت ودرّبت الإرهابيين، وأرسلتهم إلى سورية والعراق ولبنان واليمن والبحرين وليبيا، ودفعت ثمن قرارات ظالمة بحقّ الشعب السوري، نرى اليوم ارتدادات هذا الوضع على قطر والسعودية معاً اللتين يتمّ استنزافهما مالياً وسياسياً، وبالنسبة للمخططين الصهاينة لكلّ هذه الحروب، علينا، فإنّ استنزاف أيّ بلد أو قوة عربية يخدم التوجّه الأساس للصهيونية والعثمانية الجديدة المتحالفة معها. فها هي العثمانية الجديدة تمدد أعمالها العدوانية اللاشرعية في العراق وسورية وتستغلّ الموقف، فتبني قاعدة في قطر كما بنت قاعدة أخرى في جيبوتي، وها هو الكيان الصهيوني يعيش زهوة علاقات إقليمية ودولية، بينما نشهد المعالم الحضارية العربية تتحوّل إلى ركام وينفق مسؤولون عرب ساعات من وقتهم الثمين ليقرّروا ما إذا كان من المناسب واللائق أن يتحدثوا لبلد عربي جار حول مسائل مشتركة، بينما يساهمون بالترحيب ببناء قاعدة استعمارية على أرضهم تحت مسمّى سفارة. هل سيحدّد الوعي العربي قبل فوات الأوان الاتجاه السليم فيسير به ويستبعد ما ذرأته الصهيونية والعثمانية بين ظهرانية من منطق مشبوه عن سنّة وشيعة وعرب وفرس، فيدرك أنّ المعركة بكلّ أدواتها الطائفية الإرهابية المتطرّفة تستهدفه هو ووحدته وحقوقه ومصالحه وحاضره ومستقبله من المحيط إلى الخليج، ويدرك أيضاً أنّ الحلف المقاوم، وروسيا الداعمة له هو موئل الخلاص الوحيد من هذا الاستهداف الأخطبوطي، والذي هو نتاج أبحاث وأفكار صهيونية تمّ إنضاجها خلال عقود طويلة من الزمن، وأصبحت الوهّابية إحدى أدواته المعتمدة؟ هل تجمع الأمة على طريق الخلاص بعد أن برهنت الأحداث معالم هذه الطريق الأكيدة يقيناً؟