تتناقل الكثير من المواقع الإلكترونية هذه الأيام موضوع إكتشاف انجيل أثري في تركيا، مع عنوان مثير يوضح ان الإنجيل ينكر ألوهية المسيح وصلبه.
أزمة الأخلاق في الإعلام
في طريقنا لإيضاح ملابسات هذه القضية ، سنمر باختصار، على قضية اخرى لا تقل عنها خطورة وأهمية، الا وهي أزمة المهنية والأخلاق في الإعلام الحالي.
من المسلم به لكل ذي بصر وبصيرة أن الوسائل الإعلامية بمعظمها -لأسباب معقدة- بات همها الأساسي تغطية تكاليف استمرارها على قيد الصدور، سواء ما تبقى من المقروءة ، أو الإلكترونية منها. فبدأت تعتمد أي طريقة تبقيها تحت نظر القارئ أو المشاهد، ومن جملة ما تفتقت عنه إبداعاتهم ، التلاعب بصياغة عنوان الخبر لتحويله من عادي الى مثير، فيدخل القارئ الى التفاصيل ليجد انها بعيدة عن العنوان الذي قرأه! أو إعادة نشر خبر قديم دون الإشارة الى زمانه، وكأن المطلوب من القارئ هو هذه "النقرة" التي تدخله الى صفحة الخبر. وفي هذه الحالة لا يوجد احترام لعقله ووقته، وقبل ذلك للأسس الأخلاقية لمهنة الصحافة، فهي وجدت لإيضاح الحقائق لا حجبها أو تزويرها أو تحويرها لتخدم شيئاً آخر غير الحقيقة.
على ان هذا كله يمكن استيعابه عبر ضمه الى مسلسل الإنهيارات الأخلاقية التي تعاني منها مسيرة العالم الحديث، من تفكك الروابط الوطنية والعائلية والأسرية. وإنقلاب مفاهيم الخير والشر، والصح والخطأ. لكن ما لا يمكن التسامح معه هو أن يتسبب هذا العبث بتسعير الفتن الدينية التي لم تهدأ بعد في أوطاننا العربية المثيرة للشفقة.
دأبت العديد من المواقع الإلكترونية في الأيام الماضية على تناقل خبر العثور على إنجيل أثري في تركيا يعود الى 1500 عام، وأنه يحتوي على ما يؤكد الطبيعية البشرية للمسيح كما يعتقدها المسلمون لا الطبيعة الإلهية كما يعتقدها المسيحيون.
ويعلم المتابعون لهذه القضايا أن المسألة برمتها قديمة وتعود إلى سنة 2012، وسبق ان اخذ الموضوع نصيباً وافراً من الإعلام، حين أعلنت السلطات التركية عن العثور على هذا الإنجيل بحوزة مهربين كانوا ينوون نقله الى خارج تركيا، وقدر ثمنه بـ25 مليون دولار، المعلومات الشحيحة التي أطلقها وزير الثقافة التركي السيد أرطغرل غوناي، تقول أن العملية تمت سنة 2010 ولكن الكشف عنها حصل سنة 2012، وأن العمر التقريبي لهذا الإنجيل هو 1500 سنة. وهو مكتوب على اوراق جلدية وباللغة الآرامية أي لغة السيد المسيح الأصلية. وتم نشر صورة يتيمة له تداولتها المواقع الإخبارية في وقتها.
المثير في الموضوع ليس تاريخ كتابة الإنجيل والتي تعود الى 500 عام بعد المسيح فهناك نسخ اقدم بكثير، ولكن الإعلان عن ان هذا الإنجيل هو إنجيل "برنابا"، وهذا الإنجيل مرفوض من الكنيسة المسيحية بكافة طوائفها حيث تعتبر أن مسلما كتبه في القرن الخامس عشر. بينما لم يتبناه المسلمون بشكل رسمي لأنه على الرغم من ورود البشارة فيه بالنبي محمد، الا أنه احتوى على مسائل كثيرة تتعارض مع الدين الإسلامي. كما لم يرد ذكره في أي مرجع توثيقي قبل القرن الخامس عشر، وبقي هذا الإنجيل مادة دسمة كأخبار الجن والسحر، لملء أوقات الفراغ، وتحفيز الخيالات في السهرات الشعبية.
إن أول نسخة معروفة من انجيل برنابا موجودة في المتحف البريطاني حالياً، يعود تاريخها الى سنة 1563 تقريباً، وهي مكتوبة باللغة الإيطالية، نفس لغة الشخص المتهم بكتابته وهو رجل دين مسيحي إيطالي اعتنق الإسلام، وهذا لعله ما يفسّر محاولة الدمج بين الإسلام والمسيحية في مضمونه.
عقيدة الصلب
إن مما لا يرغب الكثير من المسلمين بتعلمه عن المسيحية، أن مسألة واقعة صلب المسيح من عدمه، ليست قضية هامشية، أو مجرد إثبات حادثة تاريخية، والجدل حول هل حصلت أم لم تحصل؟. فالمسيحية قائمة على هذه العقيدة أي الفداء، وهي أن المسيح ارتضى لنفسه الصلب فداء للبشرية وليحمل وزر خطاياها. ويستدل عامة المسلمين على نفي واقعة الصلب بالآية القرآنية في سورة النساء "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّـهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴿157﴾ بَل رَّفَعَهُ اللَّـهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿158﴾" مع أن التفسير المعتمد والعقيدة الإسلامية تعتبر أن الصلب قد حصل فعلا ولكن لشخص شبيه بالمسيح.
مربط الفرس في هذه القضية هو تاريخ الإنجيل المكتشف، فلو ثبت أنه يعود الى 1500 سنة، فإن هذا سيخلق إشكالية يصعب تفسيرها، ويضع الكنيسة في موقف صعب. لأن الكثير من المطاعن على هذا الإنجيل، تعتمد على ابراز عبارات ومصطلحات فيه لم تكن تستعمل قبل القرن الخامس عشر، تاريخ كتابته المفترضة. وسيكون على المسلمين أيضاً تفسير سبب عدم ذكر الكتاب في أي من مصنفاتهم ومراجعهم في القرون الأربعة عشر الماضية. وقد طلب الفاتيكان رسميا من الحكومة التركية الإطلاع على الإنجيل وفحصه، لكن دون الحصول على هذا الإذن حتى اليوم.
السؤال الذي يتبادر الى الذهن في هذه القضية هو: لو كان عمر الكتاب هو فعلا 1500 سنة، فهل كانت الحكومة التركية ستتكتّم على الموضوع؟ وهي حكومة حزب العدالة والتنمية الذي يعتبر أن هناك حرباً صليبية حالية على الإسلام!. والذي هدد بإرجاع كنيسة آيا صوفيا الى مسجد. وأعاد رفع الآذان فيها فعلياً منذ فترة انتقاماً من بعض المواقف الأوروبية. هذا الحزب الذي يحلم ويعمل على إستعادة ما يعتبره أمجاداً للدولة العثمانية. لم يكن ليوفر هكذا فرصة في تدعيم رؤاه وعقيدته الفكرية والسياسية. وتوجيه ضربة حاسمة لأعداءه الصليبيين، ويكون سببا لهداية العالم.
ومما يلزم لحاظه في هذه القضية هو سهولة عملية التأكّد من عمر الكتاب المذكور لأنه مصنوع من الجلد الطبيعي، والمعروف أن كل ما هو مكون من خلايا حية كالعظام والجلود والأخشاب وبزر الزيتون، وحتى الصباغ المستخرج من عصير النباتات، يمكن التأكد بسهولة من عمرها -مع هامش خطأ بسيط نسبياً- عبر إجراء فحص الإشعاع الكربوني. حتى ولو كانت متحجرة. والأمر لا يستغرق أكثر من دقائق معدودة. فهل يعقل أن السلطات التركية لم تجرِ هذا الفحص، وإذا أجرته ما المانع من السماح لخبراء الفاتيكان بإلقاء نظرة فاحصة عليه والسماح لهم بفحص قطعة صغيرة لا تتجاوز الميليمتر المربع؟ ولماذا لم يحسم هذا الأمر وترك معلقاً منذ 7 سنوات؟.
فلماذا انخرطت مواقع اخبارية مرموقة في الترويج لهذه الأضاليل دون اعتبار للمساس بالشعور المسيحي العام؟ ماذا لو كان المكتشف قرآنا محرّفاً أو ناقصاً كيف سيكون التعامل مع المروّجين له حينها؟ الأمر المرجح هو أن هذا الكتاب كذبة مفبركة لشد الإنتباه والكسب المادي غير المشروع، وقد سبق تسجيل قضايا تزويرمماثلة في عالم التجارة بالآثار، خاصة في إطار السعي الإسرائيلي-اليهودي لإثبات علاقة اليهود بالأراضي المقدسة.