الانتخابات النقابية أشبه بعيّنات استطلاعية أكثر دقة طبعاً من استطلاعات الرأي التي تنتشر بكثافة هذه الأيام، وإن كانت تتقاطع معها في إظهار وجود أكثر من خمسين بالمئة لا يؤيدون أحداً، سواء في السلطة أو في «المعارضة»
يمكن القول إن نقابة المعلمين في المدارس الخاصة أخطأت بتعيين موعد الانتخابات خلال العطلة الصيفية، وأخطأت بعدم تبليغ جميع الأساتذة بحصول الانتخابات، ما أسهم في خفض نسبة الاقتراع في بيروت وجبل لبنان بحكم وجود أساتذة هاتين المحافظتين في قراهم وعدم استعدادهم لقطع إجازتهم الصيفية، وهو ما ضاعف في المقابل من فعالية الماكينات الحزبية التي تملك القدرة على تأمين ناخبيها. لكن ما سبق لا يلغي حقيقة أنه لولا ماكينتا حزب الله وحركة أمل اللتان رفعتا نسبة الاقتراع في مناطق نفوذهما إلى نحو 70 بالمئة لما وصلت نسبة الاقتراع العام في كل لبنان إلى 41 بالمئة.
نسبة الاقتراع 41 بالمئة فقط، رغم أنها انتخابات مفصلية بالنسبة إلى مطالب المعلمين، ورغم أن الصوت ــ كل صوت ــ له تأثيره الكبير لأن عدد من يحق لهم الاقتراع لا يتجاوز 15 ألفاً، ورغم قرع الأحزاب والنقيب السابق نعمه محفوض كل طبول الحرب. وهذا هو المؤشر الأول منذ الانتخابات البلدية في بيروت، إلا أنه يأتي في وقت تبين فيه استطلاعات الرأي أن نسبة من يقولون إنهم «ليسوا مع أحد» ولا ينوون انتخاب أحد تصل إلى خمسين بالمئة في بعض الأقضية، الأمر الذي يسمح بالقول إن على جميع الأفرقاء، سواء كانوا في السلطة أو خارجها، أن يتحسبوا أكثر لوجود أكثرية شعبية لا تثق بهم، ولا تذهب إلى صناديق الاقتراع حتى حين يتعلق الأمر بمطالب أساسية وحيوية بالنسبة إليها، علماً بأن منح 43.7 بالمئة من المقترعين أصواتهم للنقيب السابق مقابل 63 بالمئة للنقيب الجديد رودولف عبود يعطي انطباعاً أوليّاً مهماً عن مزاج الناخبين، مع الأخذ بالاعتبار أن 43.7 بالمئة أيدوا النقيب القديم، رغم حقد إدارات المدارس عليه وسعيها بوسائلها الكثيرة لعرقلة مسيرته، مقابل 63 بالمئة أيدوا النقيب الجديد رغم أنه مرشح العهد والحكومة ووزارة التربية ووسائل الإعلام الحزبية والأحزاب الوازنة خدماتياً وإدارات المدارس والمؤسسات الدينية.
وتجدر الإشارة إلى أن قوى السلطة تعلمت من أخطائها في نقابة المهندسين وغيرها، فما كان من التيار الوطني الحر سوى إعطاء القوات اللبنانية ثلاثة مقاعد والاكتفاء بثلاثة مقاعد لنفسه، رغم أن حجم الأساتذة المؤيدين للتيار وفق ماكينته يبلغ ضعفَي عدد الأساتذة القواتيين، إلا أن خشية التيار من التصويت القواتي المعاكس وعدم الرغبة في إقلاق راحة التفاهم المعرابيّ دفعاه إلى هذا التنازل. في المقابل، أخطأ محفوض كثيراً حين ذهب مستسلماً إلى المعركة لتسجيل موقف فقط، من خلال تشكيل لائحة غير مكتملة تضم 5 مرشحين فقط، بدل تأمين مرشحين يعطونه دفعاً إضافياً، وهو كرر هنا الوقوع في أخطاء غيره من القوى العلمانية ومجموعات الحراك المدنيّ وغيرهم. أما الأهم من هذا كله، فهي النتائج التفصيلية حيث تبين الأرقام أن محفوض تفوّق بنحو الضعفين على عبود في بيروت التي تعتبر معقلاً لتيار المستقبل. أما في الشمال، الذي يعتبر معقلاً حريرياً – عونياً، فنال نعمه محفوض 957 صوتاً مقابل 191 صوتاً فقط لعبود. والواضح من أرقام هاتين المحافظتين أن ضعف تيار المستقبل الذي بينته الانتخابات البلدية إنما يتضاعف يوماً بعد آخر، ويزداد الوضع سوءاً بدل أن يتحسن. فلم ينل محفوض أربعين بالمئة من الأصوات في الشمال مثلاً أو خمسين بالمئة أو ستين بالمئة، بل حصد خمسة أضعاف ما ناله المرشح المدعوم من التيار الوطني الحر وتيار المستقبل. ولعل تيار المستقبل سيقول الآن إن عينة الأساتذة لا تعكس واقعاً عاماً، إلا أن انتخابات الأساتذة تأتي بعد انتخابات المهندسين والمحامين والأطباء والانتخابات البلدية وغيرها من الاستحقاقات التي تبين أن المستقبليين ما عادوا يؤثرون بأكثر من ثلاثين بالمئة من المقترعين في معاقل نفوذهم المفترضة، وخصوصاً في الشمال وبيروت. ولا بدّ هنا من القول إن الجماعة الإسلامية وجمعية المقاصد أيدتا ائتلاف السلطة، فيما بقي دعم تيار العزم لمحفوض خجولاً، لكن اصطفاف ريفي وميقاتي وجمعية المشاريع وحزب الاتحاد والجماعة الإسلامية في حال التزام الحريري بالموقف السعوديّ المعلن ضد الإخوان المسلمين سيكون واضحاً وحاداً في الاستحقاق النيابيّ المقبل. وعند قراءة نتائج انتخابات المعلمين سياسياً، لا بد من التوقف عند نتائج الجنوب والنبطية والبقاع وبعلبك – الهرمل. ففي الجنوب، حيث نفوذ حزب الله وحركة أمل، أيد 825 معلّماً مرشح السلطة مقابل 224 فقط صوّتوا لمحفوض. أما في النبطية، فأيد 514 عبود مقابل 126 محفوض. وفي البقاع، أيد 476 عبود مقابل 356 محفوظ نظراً إلى وجود تعددية مذهبية وسياسية. أما في بعلبك – الهرمل، فنال عبود 348 صوتاً مقابل حصول محفوض على 42 صوتاً فقط. وعليه، يمكن القول إن من أنقذ لائحة السلطة عموماً ومرشح التيار الوطني الحر إلى موقع النقيب خصوصاً ليس إلا ماكينة حزب الله وحركة أمل. حقق محفوض أفضل ما يمكن تحقيقه في مناطق نفوذ تيار المستقبل، إلا أن صناديق حزب الله وحركة أمل سلبته احتمال الخرق. ولا بدّ هنا من القول إن ماكينة حزب الله وحركة أمل كانت قادرة على استبدال أحد المرشحين المنتمين إلى حزب القوات اللبنانية بمحفوض لحفظ ماء وجهه، كما فعل أساتذة من المقاصد مثلاً والجماعة الإسلامية الذين تقول المصادر المطلعة إنهم انتخبوا محفوض، رغم تحالفهما مع لائحة السلطة، إلا أن حزب الله وحركة أمل انتخبا اللائحة «زي ما هيي» بكل ما فيها من قوات لبنانية. واللافت أن حزب الله الذي يقدّم نفسه دوماً بصفته من خارج النواة الصلبة للنظام الحاكم، كان له النصيب الأكبر في فوز لائحة النظام. لا شك في أن وقوفه إلى جانب حليفيه التيار الوطني الحر وحركة أمل هو تحصيل حاصل، وأن محفوض لم يُحسن إدارة المفاوضات مع القوى السياسية، إلا أن ذلك لا يكفي للإجابة عن سؤال مركزي وهو: لماذا لم يدر الحزب العملية الانتخابية بطريقة تؤدي إلى الحفاظ على التوازن داخل النقابة، وتسمح بتمثيل محفوض وحلفائ